والحليم : الموصوف بالحلم ، وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق . قيل : ما نعت الله الأنبياء بأقل مما نعتهم بالحلم .
وهذا إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر ، وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم الغلام الذي بشر به لوط في قوله تعالى قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فذلك وصف بأنه " عليم " ، وهذا وصف ب " حليم " . وأيضا ذلك كانت البشارة به بمحضر سارة أمه وقد جعلت هي المبشرة في قوله تعالى فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ، فتلك بشارة كرامة ، والأولى بشارة استجابة دعائه ، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه .
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب ، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفا بالواو عطف القصة على القصة .
والفاء في فلما بلغ معه السعي فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر ، تقديره : فولد له ويفع وبلغ السعي ، فلما بلغ السعي قال : يا بني إلخ ، أي بلغ أن [ ص: 150 ] يسعى مع أبيه ، أي بلغ سن من يمشي مع إبراهيم في شئونه .
فقوله " معه " متعلق بالسعي والضمير المستتر في " بلغ " للغلام ، والضمير المضاف إليه " معه " عائد إلى إبراهيم . و " السعي " مفعول " بلغ " ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه ، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات .
وكان عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وحينئذ حدث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ، ورؤيا الأنبياء وحي ، وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ، ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام ، وإنما كانت الرؤيا وحيا له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه ، فقد رأى في المنام أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل ، فلم يهاجر حتى أذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر - رضي الله عنه - ، ورأى بقرا تذبح فكان تأويل رؤياه من استشهد من المسلمين يوم أحد ، ولقد يرجح قول القائلين من السلف بأن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد ، على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة ، فإن في حديث الإسراء أن الله فرض الصلاة في ليلته ، والصلاة ثاني أركان الإسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة ، فافهم .
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمر ابتلاء .
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعا لما نسخ قبل العمل به ؛ لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء .
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علو مرتبته في طاعة ربه ، فإن الولد عزيز على نفس الوالد ، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشد عزة على نفسه لا محالة ، وقد علمت أنه سأل ولدا ليرثه نسله ولا يرثه مواليه ، فبعد أن أقر الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه ، وذلك أعظم الابتلاء . فقابل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه ، وهذا معنى قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين .
[ ص: 151 ] وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراما لإبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رؤى المنام يعقبها تعبيرها ، إذ قد تكون مشتملة على رموز خفية ، وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقي هذا التكليف الشاق عليه وهو ذبح ابنه الوحيد .
والفاء في قوله فانظر ماذا ترى فاء تفريع ، أو هي فاء الفصيحة ، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى .
والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر ، فحقه أن يتعدى إلى مفعولين ولكن علقه الاستفهام عن العمل .
والمعنى : تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر ، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال ، وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختيار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله ، وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه ، وليس إبراهيم مأمورا بذبح ابنه جبرا ، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين : أحدهما بتلقي الوحي ، والآخر : بتبليغ الرسول إليه ، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتبر كافرا .
وقرأ الجمهور " ماذا ترى " بفتح التاء والراء . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء ، أي ماذا تريني من امتثال أو عدمه .
وحكي جوابه فقال : " يا أبت افعل ما تؤمر " دون عطف ، جريا على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .
وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنن .
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو " ما تؤمر " دون أن يقول : اذبحني ، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جعل جوابه امتثالا لذبحه .
[ ص: 152 ] وحذف المتعلق بفعل " تؤمر " لظهور تقديره : أي ما تؤمر به . وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية ، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإيصال ، كقول عمرو بن معد يكرب :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وصيغة الأمر في قوله " افعل " مستعملة في الإذن .وعدل عن أن يقال : اذبحني ، إلى افعل ما تؤمر للجمع بين الإذن وتعليله ، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك ، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه .
وجملة " ستجدني " هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت ، فإنه بعد أن حثه على فعل ما أمر به وعده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابرا ، وفي ذلك تخفيف من عبء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره . وهذا وعد قد وفى به حين أمكن أباه من رقبته ، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ، وقد قرن وعده ب " إن شاء الله " استعانة على تحقيقه .
وفي قوله " من الصابرين " من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف : بصابر ؛ لأنه يفيد أنه سيجده في عداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به ، ألا ترى أن موسى - عليه السلام - لما وعد الخضر قال : ستجدني إن شاء الله صابرا لأنه حمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر .