ذيلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح ، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره .
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات . والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الامتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر ، فجملة ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف ; لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريبا بقوله تعالى : [ ص: 229 ] لقد أنزلنا آيات مبينات . وإنما عدل عن الفصل إلى العطف ; لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها . وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة : وأنزلنا فيها آيات بينات ثم قوله : ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ثم قوله هنا : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات فكان كل واحد من هذه التذييلات زائدا على الذي قبله; فالأول زائد بقوله : يبين الله لكم الآيات ; لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة ، وما هنا زاد بقوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ، فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها ، وتعتبر كل واحدة عطفا على نظيرتها ، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ، ووصف ما كان من هذه السورة مشتملا على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات ، فقوله هنا : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات يطابق قوله في أول السورة : وأنزلنا فيها آيات بينات وقوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم يقابل قوله في أول السورة : ( وفرضناها ) على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير ; لأن في التمثيل تقديرا وتصويرا للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق ، وقوله : ( وموعظة للمتقين ) يقابل قوله في أولها : لعلكم تذكرون .
والآيات جمل القرآن ; لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزل من عند الله .
وابتدئ الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ( مبينات ) بفتح التحتية على صيغة المفعول . فالمعنى : أن الله بينها ووضحها . وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها . ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها : وأنزلنا فيها آيات بينات في أول السورة ; لأن البينات هي الواضحة ، أي الواضحة الدلالة والإفادة .
[ ص: 230 ] والمثل : النظير والمشابه . ويجوز أن يراد به الحال العجيبة .
و ( من ) في قوله : من الذين خلوا ابتدائية ، أي مثلا ينشأ ويتقوم من الذين خلوا . والمراد نشأة المشابهة . وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره : من أمثال الذين خلوا من قبلكم . وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة ، قال النابغة :
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل
أراد على مخافة وعل .و ( الذين خلوا من قبلكم ) هم الأمم الذين سبقوا المسلمين ، وأراد : من أمثال صالحي الذي خلوا من قبلكم .
وهذا المثل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البرآء .
والموعظة : كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها . وقد تقدم عند قوله تعالى : فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء وقوله : موعظة وتفصيلا لكل شيء في سورة الأعراف .
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقوله : لولا إذ سمعتموه الآيات ، وقوله : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا .
والمتقون : الذين يتقون ، أي : يتجنبون ما نهوا عنه .