إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله : فذرهم في غمرتهم من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته ، ومن إشراكهم آلهة مع الله ، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات ، ومن تكذيبهم بالبعث . كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم ، ألا ترى إلى قوله بعد هذا : بل قلوبهم في غمرة من هذا .
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين . واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم ، فحصل بهذا إيجاز بديع ، وطباق من ألطف البديع ، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع .
وافتتاح الجملة بـ ( إن ) للاهتمام بالخبر ، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها ، وتكرير [ ص: 77 ] أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعا بالعطف . والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات . و ( من ) في قوله : من خشية ربهم للتعليل .
والإشفاق : توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى : وهم من خشيته مشفقون في سورة الأنبياء . وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته ، أي : يتوقعون غضبه وعقابه .
والمراد بالآيات : الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن . والمعنى : أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه ، فحذف متعلق ( مشفقون ) لدلالة السياق عليه .
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها .
ومعنى يؤتون ما آتوا يعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله . قال تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية وقال : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة . واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا .
وإنما عبر بـ ما أتوا دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعا وليعم القليل والكثير ، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب .
وجملة وقلوبهم وجلة في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها ، أي : يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجلا وخوفا من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيا عنهم ، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات ، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين . وفي الحديث أهل [ ص: 78 ] الصفة قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم . قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة . أن
وقال : أبو مسعود الأنصاري . ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى : لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا الآيات .
وخبر ( إن ) جملة أولئك يسارعون في الخيرات .
وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين ; لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا .
وتقدم الكلام على معنى يسارعون في الخيرات آنفا .
ومعنى وهم لها سابقون أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير ، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية ، أو المعنى : وهم محرزون لما حرصوا عليهم ، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب ; لأن الإحراز من لوازم السبق .
وعلى التقديرين فاللام بمعنى ( إلى ) . وقد قيل : إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى بـ ( إلى ) .
وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة .