وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة يا أيها الرسل كلوا من الطيبات إلخ ، فيكون هذا مما قيل للرسل . والتقدير : وقلنا لهم إن هذه أمتكم أمة واحدة . الآية . ويجوز أن تكون عطفا على قصص الإرسال المبدوءة من قوله : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ; لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن . وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية .
وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء . فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة ( إن ) . فأما هذه الآية فقرأ الجمهور ( وأن ) بفتح الهمزة وتشديد النون ، فيجوز أن تكون خطابا للرسل وأن تكون خطابا للمقصودين بالنذارة على الوجهين . وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله : ( فاتقون ) عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعا من تقديم معموله ، أو متعلقة بمحذوف دل عليه ( فاتقون ) عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء ، كما تقدم في قوله تعالى : فإياي فارهبون في سورة البقرة .
[ ص: 70 ] والمعنى عليه : ولكون دينكم دينا واحدا لا يتعدد فيه المعبود . وكوني ربكم فاتقون ولا تشركوا بي غيري ، خطابا للرسل والمراد أممهم ، أو خطابا لمن خاطبهم القرآن .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة ( إن ) وتشديد النون ، فكسر همزة ( إن ) إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول ، وإما لأنها مستأنفة على الوجه الثاني . والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور .
وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من ( أن ) المفتوحة ، واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها . ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء .
واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية .
وتأكيد الكلام بحرف ( إن ) على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن .
وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء ; إلا أن الواقع هنا ( فاتقون ) وهناك ( فاعبدون ) فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكى في كل سورة أمرا من الأمرين ، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد ، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين . ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين : الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى ، قد وقع في خطاب مستقل تماثل بعضه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء ، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين . ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة .
وأيا ما كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله : ولقد آتينا إبراهيم رشده [ ص: 71 ] ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى ، أي : إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان . أولى هنالك ; لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم ، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة ; لأنه الذي حظ الأمم منه أكثر . إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام . وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب بـ يا أيها الرسل فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام ; لأن التقوى لا حد لها ، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيه : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ثم قال في حق الأمة : فاقرءوا ما تيسر من القرآن الآية . وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضمه إليه وعول عليه .
وقد فات في سورة الأنبياء أن نبين عربية قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة فوجب أن نشبع القول فيه هنا . فالإشارة بقوله : ( هذه ) إلى أمر مستحضر في الذهن بينه الخبر والحال ولذلك أنث اسم الإشارة ، أي : هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك . ومعنى هذا الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئا ، ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانا لاسم الإشارة ; لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله .
قال : ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر . ففي قولك : هذا زيد قائما ، لا يقال إلا لمن يعرفه [ ص: 72 ] فيفيده قيامه ، ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح . الزجاج
وبهذا يعلم بأنه ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازا في معنى التحريض والملازمة ، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم ، ومنه قوله تعالى : وهذا بعلي شيخا فإن سارة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق . وإنما المعنى : وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يترقب منه النسل المبشر به ، أي : حاله ينافي البشارة ، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية . وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية .