عطف على جملة ولكل أمة جعلنا منسكا أي جعلنا منسكا للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تهدى ويتقرب بها شعائر من شعائر الله . والمعنى : أن من عهد الله أمر بقربان البدن في الحج إبراهيم - عليه السلام - وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحج . وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجعل الإلهي يمنا وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة ( لكم ) .
والبدن : جمع بدنة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البدن . وهو اسم مأخوذ من البدانة . وهي عظم الجثة والسمن . وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفا ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف . وجمعه بدن ، وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خشب جمع خشبة ، وثمر جمع ثمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع . وغلب اسم البدنة على البعير المعين للهدي .
وفي الموطأ : عن أبي هريرة فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحج ، [ ص: 263 ] وتقديم ( البدن ) على عامله للاهتمام بها تنويها بشأنها . والاقتصار على البدن الخاص بالإبل لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها . وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنة . واسم ذلك هدي . ومعنى كونها من شعائر الله : أن الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة . وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلم بها بعير الهدي في جلده إشعارا . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة
قال مالك في الموطأ : كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة ، يقلده قبل أن يشعره . . . يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر . . بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر . وقد عدها في جملة الحرمات في قوله لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود ، وتقديم ( لكم ) على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم ( فيها ) على متعلقه وهو ( خير ) للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد .
والخير : النفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقلائدها . وما يحصل للمهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النحر ، وخير الآخرة من ثواب المهدين ، وثواب الشكر من المعطين لحومها لربهم الذي أغناهم بها . وفرع على ذلك أن . أمر الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها
[ ص: 264 ] وصواف : جمع صافة . يقال : صف إذا كان مع غيره صفا بأن اتصل به . ولعلهم كانوا يصفونها في المنحر يوم النحر بمنى ، لأنه كان بمنى موضع أعد للنحر وهو المنحر . وقد ورد في حديث مسلم عن في حجة الوداع قال فيه : جابر بن عبد الله المنحر جعل يطعنها بحربة في يده ثم أعطى الحربة فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثا وستين بدنة عليا فنحر ما غبر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة . وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة . وانتصب ( صواف ) على الحال من الضمير المجرور في قوله ( عليها ) . وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مشاهد البدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالا . وقريب منه قوله تعالى ثم انصرف رسول الله إلى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص . ومعنى : ( وجبت ) سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال . والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر من هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة . والأمر في قوله فكلوا منها مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب . وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأن المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه . وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب . واختلف الفقهاء في الواجبة . الأكل من لحوم الهدايا
[ ص: 265 ] فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة . وهو عنده مستحب ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاء الصيد ونذر المساكين . والحجة لمالك صريح الآية . فإنها عامة إلا ما قام الدليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة . وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتع والقران . ولا يأكل من الواجب الذي عينه الحاج عند إحرامه .
وقال : لا يأكل من لحوم الهدايا بحال مستندا إلى القياس . وهو أن المهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه . كذا قال الشافعي ابن العربي . وإذا كان هذا قصارى كلام فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لاسيما وقد ثبت أكل النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة . الشافعي
وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلا جزاء الصيد والنذر .
وأما الأمر في قوله وأطعموا القانع والمعتر فقال : للوجوب . وهو الأصح . قال الشافعي ابن العربي وهو صريح قول مالك . وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المهدي على نحو هديه ولم يتصدق منه ما كان آثما .
والقانع : المتصف بالقنوع . وهو التذلل . يقال : قنع من باب سأل ، قنوعا بضم القاف إذا سأل بتذلل .
وأما القناعة ففعلها من باب تعب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب . ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :
العبد حر إن قنع والحر عبد إن قنع
فاقنع ولا تقنع فما
شيء يشين سوى الطمع
[ ص: 266 ] في مقاماته : يا وللزمخشري أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القنوع ، تستغن عن كل معطاء ومنوع . وفي الموطأ في كتاب الصيد : قال مالك : والقانع هو الفقير .
والمعتر : اسم فاعل من اعتر ، إذا تعرض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعتر ، إذا تعرض ، وفي الموطأ في كتاب الصيد : قال مالك : وسمعت أن المعتر هو الزائر ، أي فتكون من عر إذا زار . والمراد زيارة التعرض للعطاء . وهذا التفسير أحسن . ويرجحه أنه عطف المعتر على القانع ، فدل العطف على المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله وأطعموا البائس الفقير . وجملة كذلك سخرناها لكم استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس . والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخرها للناس مع ضعف الإنسان وقوة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن . ولولا أن الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجز من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخر له .
وقوله ( كذلك ) هو مثل نظائره ، أي مثل ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم . ومعنى ( لعلكم تشكرون ) خلقناها مسخرة لكم استجلابا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بالمشركين إذ وضعوا الشرك موضع الشكر .