فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض .
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها ، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك ، وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ، وقال أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين .
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وما كان أحد الرجلين الذين تقدمت قصتهما إلا واحدا من المشركين إذ قال وما أظن الساعة قائمة .
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها .
والحياة الدنيا : تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها ، فإطلاق اسم الحياة الدنيا على تلك المدة ; لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية ; لأنها مقدر زوالها ، فهي دنيا .
[ ص: 331 ] وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد ، أي حياة كل أحد ، ووصفها بـ ( الدنيا ) بمعنى القريبة ، أي الحاضرة غير المستنظرة ، كنى عن الحضور بالقرب ، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة ، وهي الحياة بعد الموت .
والكاف في قوله " كماء " في محل الحال من ( الحياة ) المضاف إليه ( مثل ) ، أي اضرب لهم مثلا لها حال أنها كماء أنزلناه .
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها ، فهما مرادان منه ، وضمير " لهم " عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله ( وحشرناهم فلم نغادر منهم - وعرضوا - بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا ) .
واختلاط النبات : وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخصب والازدهار .
والباء في قوله ( به ) باء السببية ، والضمير عائد إلى ( ماء ) أي فاختلط النبات بسبب الماء ، أي اختلط بعض النبات ببعض ، وليست الباء لتعدية فعل اختلط إلى المفعول لعدم وضوح المعنى عليه ، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق .
و ( أصبح ) مستعملة بمعنى صار ، وهو استعمال شائع .
والهشيم : اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول ، أي مهشوما محطما ، والهشم : الكسر والتفتيت .
و تذروه الرياح أي تفرقه في الهواء ، والذرو : الرمي في الهواء ، شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زمانا بهجة خضرة ثم يصير نبتها بعد حين إلى اضمحلال ، ووجه الشبه : المصير من حال حسن إلى حال سيئ ، وهذا تشبيه معقول بمحسوس ; لأن الحالة المشبهة معقولة ; إذ لم ير الناس بوادر تقلص بهجة الحياة ، وأيضا شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجدة وزخرف العيش لأهله ، ثم تقلص ذلك وزوال نفعه ثم انقراضه أشتاتا [ ص: 332 ] بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأته عنه ونضارته ووفرته ، ثم أخذه في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطايره أشتاتا في الهواء - تشبيها لمركب محسوس بمركب محسوس ، ووجه الشبه كما علمت .
وجملة وكان الله على كل شيء مقتدرا جملة معترضة في آخر الكلام ، موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها ، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها ، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء ، وذلك اقتدار عجيب ، وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله على كل شيء وهو بذلك العموم أشبه التذييل ، والمقتدر : القوي القدرة .