وقوله إلا أن يشاء الله استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله ، وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين ، فمقتضى كلام أنه من بقية جملة النهي ، أي هو استثناء من حكم النهي ، أي لا تقولن : إني فاعل إلخ إلا أن يشاء الله أن تقوله ، ومشيئة الله تعلم من إذنه بذلك ، فصار المعنى : إلا أن [ ص: 296 ] يأذن الله لك بأن تقوله ، وعليه فالمصدر المنسبك من أن يشاء الله مستثنى من عموم المنهيات ، وهو من كلام الله تعالى ، ومفعول يشاء الله محذوف دل عليه ما قبله كما هو شأن فعل المشيئة ، والتقدير : إلا قولا شاءه الله ، فأنت غير منهي عن أن تقوله . الزمخشري
ومقتضى كلام والأخفش ، الكسائي ، أنه مستثنى من جملة والفراء إني فاعل ذلك غدا ، فيكون مستثنى من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم المنهي عنه ، أي إلا قولا مقترنا بـ إن شاء الله فيكون المصدر المنسبك من أن والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة ، والتقدير : إلا بـ أن يشاء الله أي بما يدل على ذكر مشيئة الله ; لأن ملابسة القول حقيقة المشيئة - محال ، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ إن شاء الله ونحوه ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له .
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات : الأولى : أنه أجاب سؤله ، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين .
الثانية : أنه علمه علما عظيما من أدب النبوة .
الثالثة : أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه ، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله ، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم ، ومثاله ما في الصحيح : قال : سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، قال [ ص: 297 ] حكيم : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا حكيم بن حزام ، فعلم أن حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سؤله ، وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل ، فلذلك أقسم حكيم : أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئا ، ولم يقل : لا أسألك بعد هذه المرة شيئا .
فنظم الآية أن اللام في قوله لشيء ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة ، أي : لا تقولن إني فاعل كذا لأجل شيء تعد به ، فاللام بمنزلة ( في ) .
و " شيء " اسم متوغل في التنكير يفسره المقام ، أي الشيء تريد أن تفعله .
والإشارة بقوله " ذلك " عائدة إلى " شيء " ، أي : إني فاعل الإخبار بأمر يسألونه .
و " غدا " مستعمل في المستقبل مجازا ، وليست كلمة " غدا " مرادا بها اليوم الذي يلي يومه ، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل ، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال ، والأمس بمعنى زمن الماضي ، وقد جمعها قول زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاء مثل الأيمان ، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها ، فقال جمهورهم : يكون ذكر إلا أن يشاء الله حلا لعقد اليمين يسقط وجوب الكفارة ، ولعلهم أخذوه من معنى ( شيء ) في قوله ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك إلخ : بحيث إذا أعقبت اليمين بقول ( إلا أن يشاء الله ) ونحوه لم يلزم البر في اليمين ، وروى ابن القاسم ، وأشهب ، وابن عبد الحكم عن مالك أن قوله ولا تقولن لشيء إني فاعل إلخ إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو ، وليس باستثناء ، يعني أن حكم الثنيا [ ص: 298 ] في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية ، بل هو مما ثبت بالسنة ، ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين ، وهي قول ( إن شاء الله ) ، وهذا قول أبي حنيفة ، . والشافعي