أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ( أم ) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض ، ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضابا ، بل هو كالانتقال من الديباجة ، والمقدمة إلى المقصود .
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت ، فكان ذكر أهل الكهف ، وبعثهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالا لإمكان البعث .
[ ص: 259 ] و ( أم ) هذه هي أم المنقطعة بمعنى ( بل ) ، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها ، يقدر بعدها حرف استفهام ، وقد يكون ظاهرا بعدها كقول أفنون التغلبي :
أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم أم كيف يجزونني السوأى عن الحسن والاستفهام المقدر بعد ( أم ) تعجيبي ، مثل الذي في البيت .
والتقدير هنا : أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجبا من بين آياتنا ، أي أعجب من بقية آياتنا ، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف ; لأن في إنامتهم إبقاء للحياة في أجسامهم ، وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم ، وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبيء صلى الله عليه وسلم بيان أهل الكهف ; لاستعلام ما فيها من العجب ، بأنهم سألوا عن عجيب ، وكفروا بما هو أعجب ، وهو انقراض العالم ، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون قصة ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة ، وإن الدهر يهلكنا ، وهو باق .
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العبر والأسباب وآثارها ، ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ، فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه ، وبقوله إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى الآيات ، الدال على أنهم أبطلوا الشرك ، وسفهوا أهله تعريضا بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد : قومه الذين سألوا عن القصة ، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها ، وتطلب بيانها ، ويظهر أن الذين لقنوا قريشا السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة [ ص: 260 ] بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة ، أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف ، ومحل التعجب هو قوله من آياتنا ، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم ، وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق ، فيئول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى ، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة ، منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ، ومنها ما يساويها .
فمعنى ( من ) في قوله " من آياتنا " التبعيض ، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى ، كما تقول : سأل فلانا فهو العالم منا ، أي المنفرد بالعلم من بيننا .
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية ، أي كانوا عجبا في آياتنا ، أي وبقية الآيات ليست عجبا ، وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة ، وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام .
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب ، وإنما العجب حالهم في قومهم ، فثم مضاف محذوف يدل عليه الكلام ، وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة ، والمراد عجيب .
والكهف : الشق المتسع الوسط في جبل ، فإن لم يكن متسعا فهو غار .
والرقيم : فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة ، فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم ، قيل : كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد ، وقيل : هو كتاب دينهم ، دين كان قبل عيسى عليه السلام ، وقيل : هو دين عيسى ، وقيل : كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف ; فرارا من كفر قومهم .
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منها ، وهو التجاؤهم إلى ربهم ، واستجابته لهم .
[ ص: 261 ] وقد أشارت الآية إلى قصة نفر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل ; فانزووا إلى الخلوة ; تجنبا لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فرارا من الفتنة في دينهم ، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقى عليهم نوما بقوا فيه مدة طويلة ، ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم ، وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة ، فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البلى كرامة لهم .
وقد عرف الناس خبرهم ، ولم يقفوا على أعيانهم ، ولا وقفوا على رقيمهم ، ولذلك اختلفوا في شأنهم ، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها .
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف ، وقد ذكر ابن عطية ملخصا في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقصاص .
والذي ذكره الأكثر : أن في بلد يقال له ( أبسس ) بفتح الهمزة وسكون الموحدة ، وضم السين بعدها سين أخرى مهملة ، وكان بلدا من ثغور ( طرطوس ) بين حلب ، وبلاد أرمينية وأنطاكية .
وليست هي ( أفسس ) بالفاء أخت القاف - المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها ، فإنها من بلاد اليونان ، وإلى أهلها كتب بولس رسالته المشهورة ، وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين ، وهي قريبة من " مرعش " من بلاد أرمينية ، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات ، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين ، فكان من أهل أبسس نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام ، وكانوا في زمن الإمبراطور ( دوقيوس ) ويقال ( دقيانوس ) الذي [ ص: 262 ] ملك في حدود سنة 237 ، وكان ملكه سنة واحدة ، وكان متعصبا للديانة الرومانية ، وشديد البغض للنصرانية ، فأظهر كراهية الديانة الرومانية ، وتوعدهم ( دوقيوس ) بالتعذيب ، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان ، يقال له ( بنجلوس ) فيه كهف أووا إليه ، وانفردوا فيه بعبادة الله ، ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك ، وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم ، فألقى الله عليهم نومة ، فظنهم أتباع الملك أمواتا ، وقد قيل : إنه أمر أن تسد فوهة كهفهم بحائط ، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر ; لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم ، ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك ; إذ لم تزد مدته على عام واحد ، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة ، وكان انبعاثهم في مدة ملك ( ثاوذوسيوس ) قيصر الصغير ، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة .
ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم ، وللناس فبعثهم من مرقدهم ، ولم يعلموا مدة مكثهم ، وأرسلوا أحدهم إلى المدينة ، وهي ( أبسس ) ، بدراهم ليشتري لهم طعاما ، تعجب الناس من هيئته ، ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال ، وتسامع أهل المدينة بأمرهم ، فخرج قيصر الصغير مع أساقفة وقسيسين وبطارقة إلى الكهف ، فنظروا إليهم ، وكلموهم ، وآمنوا بآيتهم ، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم ، وكانت آية تأيد بها دين المسيح .
والذي في كتاب أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة ( الطبري أريوس ) و ( أطيوس ) ومن معهما من أهل المدينة ، وقيل : لما شاهدهم الناس كتب واليا المدينة إلى ملك الروم ، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد ، ولم يذكروا هل نفذ بناء المسجد أو لم ينفذ ، ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك ، ولعله قد انسد بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه ، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين من أقطار الأرض - كثيرة ، وفي جنوب القطر التونسي موضع يدعى [ ص: 263 ] أنه الكهف ، وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود ; اعتقادا بأن أهل الكهف كانوا سبعة ، وستعلم مثار هذه التوهمات .
وفي تفسير الآلوسي عن ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قال : غزونا مع ابن عباس معاوية غزو المضيق نحو الروم ، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال : ليس ذلك لك ، قد منع الله ذلك من هو خير منك ، فقال : ابن عباس لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا ، وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا ، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم ، وروى عبد الرزاق عن وابن أبي حاتم عكرمة : أن غزا مع ابن عباس فمروا بالكهف فإذا فيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام حبيب بن مسلمة أهل الكهف ، فقال : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة . ابن عباس
وفي تفسير الفخر عن القفال عن : أن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف ، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه ، قال : وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم ، قال : فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم ، قال : وعرفت أنه تمويه واحتيال ، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ا هـ .
وقوله فسافر إلى الروم مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة ( أفسوس ) بالفاء أخت القاف ، وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين ، كما نبهنا عليه آنفا ، فإن بلد ( أفسس ) في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية ، ولذلك قال بعض المؤرخين : إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم ، أمر بأن يجعل دليل في [ ص: 264 ] رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه ، أما مدينة ( الخليفة الواثق أبسس ) بالباء الموحدة فقد كانت حينئذ من جملة مملكة الإسلام .
قال ابن عطية : وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى ( لوشة ) كهف فيه موتى ، ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ، ولم نجد من علم شأنهم أثارة ، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ، ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى ( الرقيم ) كأنه قصر محلق - كذا بحاء مهملة ، لعله بمعنى مستدير كالحلقة - وقد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض حزنة ، وبأعلى حضرة ( أغرناطة ) مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها . ا هـ .
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق ، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض .
وللكهوف ذكر شائع في اللوذ إليها والدفن بها .
وقد كان المتنصرون يضطهدون في البلاد ، فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن ، فإذا مات أحدهم دفن هنالك ، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها ، ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك ، وكانوا كثيرا ما يستصحبون معهم كلبا ; ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها ، وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف .
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف ، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم - يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي ، فإن اليهود يتجافون عن [ ص: 265 ] كل خبر فيه ذكر للمسيحية ، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود ، وكانوا يأوون إلى الكهوف ، ويوجد مكان بأرض ( سكرة ) قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود ، يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم .
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبر عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف ، أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته ، وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم .
قال السهيلي في الروض الأنف : وأصحاب الكهف من أمة عجمية ، والنصارى يعرفون حديثهم ، ويؤرخون به ا هـ .
وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى " ويسألونك عن الروح " في سورة الإسراء .