أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان : إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان ; لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال ، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم ، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان ، على أن قوله فلا تلوموني يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح ، ويحتمل أنه توقعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض ، فجملة وقال الشيطان عطف على جملة فقال الضعفاء .
والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه ;لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم ، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قبله ، وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية .
ومعنى قضي الأمر تمم الشأن ، أي : إذن الله وحكمه ، ومعنى إتمامه : ظهوره ، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية ، قال تعالى وامتازوا اليوم أيها المجرمون ، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله ، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم ، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق . وشهادة عليهم بأن لهم كسبا في اختيار الانطباع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق ، فهذا [ ص: 219 ] شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولهم لهم أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء إظهارا للحقيقة وتسجيلا على أهل الضلالة وقمعا لسفسطتهم .
وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم ، وإيقاظا لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة ، فقول الشيطان فلا تلوموني ولوموا أنفسكم إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه .
وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس .
وإضافة ( وعد ) إلى ( الحق ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف ، أي الوعد الحق الذي لا نقض له .
والحق : هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به ، وضده : الإخلاف ، ولذلك قال ووعدتكم فأخلفتكم ، أي : كذبت موعدي ، وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وشمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا .
والسلطان : اسم مصدر ( تسلط عليه ) ، أي : غلبه وقهره ، أي : لم أكن مجبرا لكم على اتباعي فيما أمرتكم .
والاستثناء في إلا أن دعوتكم استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله . فالمعنى : لكني دعوتكم فاستجبتم لي .
وتفرع على ذلك فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، والمقصود : لوموا أنفسكم ، أي : إذ قبلتم إشارتي ودعوتي ، وقد تقدم بيانه صدر الكلام على الآية .
[ ص: 220 ] ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر ، كأنه قال : فلا تلوموا إلا أنفسكم ، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم ، وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة ، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي ، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد ، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى ; لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين .
وجملة ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ، بيان لجملة النهي عن لوم ; لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم ، فنفى ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه .
والإصراخ : الإغاثة ، اشتق من الصراخ ; لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته ، فقيل : أصرخه ، إذا أجاب صراخه ، كما قالوا : أعتبه ، إذا قبل استعتابه ، وأما عطف وما أنتم بمصرخي فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر .
وقرأ الجمهور بمصرخي بفتح التحتية مشددة ، وأصله بمصرخيي بياءين : أولاهما ياء جمع المذكر المجرور ، وثانيهما ياء المتكلم ، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة .
وقرأ حمزة وخلف بمصرخي بكسر الياء تخلصا من التقاء الساكنين بالكسرة ; لأن الكسرة هو أصل التخلص من التقاء الساكنين . قال الفراء : تحريك الياء بالكسر ; لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر ، وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العجلي :
قال لها هل لك يا تا في قالت له : ما أنت بالمرضي
أراد : هل لك في يا هذه ؟وقال أبو علي الفارسي : زعم قطرب : إنها لغة بني يربوع ، وعن أنه أجاز الكسر ، واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة ، وإن كان التخلص بالكسرة [ ص: 221 ] هو القياس ، وقد أثبته سند قراءة أبي عمرو بن العلاء حمزة ، وقد تحامل عليه وتبعه الزجاج وسبقهما في ذلك الزمخشري أبو عبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج على نسبة ذلك البيت للأغلب العجلي . والزمخشري
والذي ظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم ، وبنو عجل بن لجيم من بكر بن وائل ، فقرءوا بلهجتهم أخذا بالرخصة للقبائل أن يقرءوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - فاقرءوا ما تيسر منه القرآن أنزل على سبعة أحرف ، كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير ، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ، ولم يثبت ما ينسخها في هذه الآية ، واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ، ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام ، وهذه الشروط متوفرة في قراءة إن هذا حمزة هذه كما علمت آنفا ; فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه .
وجملة إني كفرت بما أشركتمون من قبل استئناف تنصل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى ، وأراد بقوله ( كفرت ) شدة التبرؤ من إشراكهم إياه في العبادة ، فإن أراد من ( مضي ) فعل ( كفرت ) مضي الأزمنة كلها ، أي : كنت غير راض بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل ، وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب ، و من قبل على التقديرين متعلق بـ أشركتمون .
والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله ; لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن ، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة ، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته .
[ ص: 222 ] وجملة إن الظالمين لهم عذاب أليم من الكلام المحكي عن الشيطان ، وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله ما أنا بمصرخكم ، أي : لأنه لا يدفع عنك العذاب دافع فهو واقع بكم .