عطف على جملة وما أكثر الناس إلخ . هاتان الآيتان متصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إلى قوله إن هو إلا ذكر للعالمين وقوله قل هذه سبيلي الآية ، فإن تلك الآي تضمنت الحجة [ ص: 67 ] على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به ، وتضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عنادا وإعراضا عن آيات الصدق . فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنة إلهية قديمة فلماذا يجعل المشركون نبوءتك أمرا مستحيلا فلا يصدقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون أبعث الله بشرا رسولا ، وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالا من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك . فسلم المشركون ببعثتهم وتحدثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك .
وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين .
و ( من قبلك ) يتعلق بـ ( أرسلنا ) فـ ( من ) لابتداء الأزمنة فصار ماصدق القبل الأزمنة السابقة . أي من أول أزمنة الإرسال . ولولا وجود ( من ) لكان ( قبلك ) في معنى الصفة للمرسلين المدلول عليهم بفعل الإرسال .
والرجال : اسم جنس جامد لا مفهوم له . وأطلق هنا مرادا به أناسا كقوله صلى الله عليه وسلم : . أي إنسان أو شخص . فليس المراد الاحتراز عن المرأة . واختير هنا دون غيره لمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلا من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس ، ألا ترى إلى قول ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه قيس بن عاصم حين تنبأت سجاح :
أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين من سلموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا فليأتنا بآية كما أرسل الأولون قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى . أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتعرضوا عن النظر في آياته .[ ص: 68 ] فالقصر إضافي ، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكة أو ملوكا من ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي ، ويعقوب عليه السلام حين كان ساكنا في البدو كما تقدم .
وقرأ الجمهور ( يوحى ) بتحتية وبفتح الحاء مبنيا للنائب . وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة .
وتفريع قوله أفلم يسيروا في الأرض على ما دلت عليه جملة وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا من الأسوة ، أي فكذبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب ، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الأقوام السابقين ، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب ، فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذبوا الرسل قبلهم ، فضمير يسيروا عائد على معلوم من المقام الدال عليه وما أنا من المشركين .
والاستفهام إنكاري ، فإن مجموع المتحدث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود . وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد .
و ( كيف ) استفهام معلق لفعل النظر عن مفعوله .
وجملة ولدار الآخرة خبر ، معطوفة على الاعتراض فلها حكمه ، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا ، وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا ، وتعريض أيضا بأن دار الآخرة أشد أيضا على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين .
وإضافة دار إلى آخرة من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل : في الحديث . يا نساء المسلمات
[ ص: 69 ] وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب أفلا تعقلون بتاء الخطاب على الالتفات ; لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب . وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله .
و ( حتى ) من قوله حتى إذا استيئس الرسل ابتدائية ، وهي عاطفة جملة إذا استيئس الرسل على جملة وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم باعتبار أنها حجة على المكذبين ، فتقدير المعنى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيئس الرسل إلى آخره ، فإن ( إذا ) اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان ، وجملة ( استيئس ) مضاف إليها ( إذا ) ، وجملة جاءهم نصرنا جواب ( إذا ) ; لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب ( إذا ) في مثل هذا التركيب . والمراد بالرسل عليهم السلام غير المراد بـ ( رجالا ) ، فالتعريف في الرسل عليهم السلام تعريف العهد الذكري وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالا بالدلالة اهتماما بالجملة .
وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا بما قصد بها من معنى قصد الأسوة بسلفه من الرسل عليهم السلام ، والمعنى : فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذروهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل عليهم السلام من إيمان قومهم .
و ( استيئس ) مبالغة في يئس ، كما تقدم آنفا في قوله ولا تيأسوا من روح الله .
وتقدم أيضا قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء . فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه .
[ ص: 70 ] وفي صحيح عن البخاري عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها : أكذبوا أم كذبوا أي بالخفيف أم بالشد ، قالت : كذبوا أي بالشد قال : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن فهي قد كذبوا أي بالتخفيف ، قالت : معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل عليهم السلام أن أتباعهم مكذبوهم اهـ . وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون كذبوا مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل ، وذلك ليس بمتعين ، ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية كذبوا بالتخفيف .
وتفريع فننجي من نشاء على جاءهم نصرنا ; لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس ، فينجي الله الذين آمنوا ولا يرد البأس عن القوم المجرمين . والبأس : هو عذاب المجرمين الذي هو نصر الرسل عليهم السلام ، والقوم المجرمون : الذين كذبوا الرسل . وقرأ الجمهور فننجي بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى . و ( من نشاء ) مفعول ننجي ، وقرأه ابن عامر وعاصم فنجي بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية على أنه ماضي نجى المضاعف بني للنائب ، وعليه فـ ( من نشاء ) هو نائب الفاعل ، والجمع بين الماضي في نجي والمضارع في نشاء احتباك تقديره فنجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين .