وأبواه أحدهما يعقوب عليه السلام وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف عليه السلام وهي راحيل توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين ، ولذلك قال جمهور المفسرين : أطلق الأبوان على الأب وزوج الأب وهي ليئة خالة يوسف عليه السلام وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل . وإعادة اسم يوسف عليه السلام لأجل بعد المعاد .
وقوله ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين جملة دعائية بقرينة قوله ( إن شاء الله ) لكونهم قد دخلوا مصر حينئذ . فالأمر في ادخلوا للدعاء كالذي في قوله تعالى ادخلوا الجنة لا خوف عليكم .
والمقصود : تقييد الدخول بـ ( آمنين ) وهو مناط الدعاء .
والأمن : حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه ، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك ، ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد .
وجملة ( إن شاء الله ) تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمن ، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاء بمنزلة وقوع [ ص: 56 ] التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث : أن ; لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة . وجملة ( لا يقول اغفر لي إن شئت ، فإنه لا مكره له إن شاء الله ) معترضة بين جملة ( ادخلوا ) والحال من ضميرها .
والعرش : سرير للقعود فيكون مرتفعا على سوق ، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتكاء . والسجود : وضع الجبهة على الأرض تعظيما للذات أو لصورتها أو لذكرها ، قال الأعشى :
فلما أتانا بعيد الكرى سجدنا له ورفعنا العمارا
وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية .والخرور : الهوي والسقوط من علو إلى الأرض .
والذين خروا سجدا هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله هذا تأويل رؤياي وهم أحد عشر وهم : روبين ، وسمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وربولون ، وجاد ، وأشير ، ودان ، ونفتالي ، وبنيامين ، والشمس ، والقمر ، تعبيرهما أبواه يعقوب عليه السلام وراحيل .
وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم ، ولم يكن يومئذ ممنوعا في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقا لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية . ولذلك فلا يعد قبوله السجود من أبيه عقوقا لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم .
والأحسن أن تكون جملة ( وخروا ) حالية ; لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش ، على أن الواو لا تفيد ترتيبا .
و ( سجدا ) حال مبينة ; لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة .
[ ص: 57 ] والإشارة في قوله ( هذا تأويل رؤياي ) إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدا له .
وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله ( نبئنا بتأويله ) .
ومعنى ( قد جعلها ربي حقا ) أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس ، أي ولم يجعلها باطلا من أضغاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية .
ومعنى ( أحسن بي ) أحسن إلي . يقال : أحسن به وأحسن إليه ، من غير تضمين معنى فعل آخر . وقيل : هو بتضمين ( أحسن ) معنى لطف . وباء بي للملابسة أي جعل إحسانه ملابسا لي ، وخص من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية .
فإن ( إذ ) ظرف زمان لفعل ( أحسن ) فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود ، فإن ذلك الوقت كان زمن ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة ، وزمن خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبة ، وبخلطة من لا يشاكلونه ، وبشغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية ، وكان أيضا زمن إقبال الملك عليه . وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم ، فأفصح بذكر خروجه من السجن ، ومجيء أهله من البدو إلى حيث هو مكين قوي .
وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجب ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ، فكلمة ( بعد ) اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره - وقد ألم - به إجمالا اقتصارا على شكر النعمة وإعراضا عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمر بها مر الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان .
[ ص: 58 ] والمجيء في قوله ( وجاء بكم من البدو ) نعمة ، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو .
والبدو : ضد الحضر ، سمي بدوا ; لأن سكانه بادون ، أي ظاهرون لكل وارد ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب . وذكر ( من البدو ) إظهار لتمام النعمة ; لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة .
والنزغ : مجاز في إدخال الفساد في النفس . شبه بنزغ الراكب الدابة وهو نخسها . وتقدم عند قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ في سورة الأعراف .
وجملة إن ربي لطيف لما يشاء مستأنفة استئنافا ابتدائيا لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها .
واللطف : تدبير الملائم . وهو يتعدى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به ، ويتعدى بالباء ، قال تعالى الله لطيف بعباده ، وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى وهو اللطيف الخبير في سورة الأنعام .
وجملة إنه هو العليم الحكيم مستأنفة أيضا أو تعليل لجملة إن ربي لطيف لما يشاء ، وحرف التوكيد للاهتمام . وتوسيط ضمير الفصل للتقوية .
وتفسير العليم تقدم عند قوله تعالى إنك أنت العليم الحكيم في سورة البقرة . و ( الحكيم ) تقدم عند قوله فاعلموا أن الله عزيز حكيم أواسط سورة البقرة .