" ذالكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون "
جملة قال لا يأتيكما جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور .
أراد بهذا الجواب أن يفترض إقبالهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنه يعبر لهما رؤياهما غير بعيد ، وجعل لذلك وقتا معلوما لهم ، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها ، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس ، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه .
ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذ لم يكن بعيدا كما دل عليه قوله : قبل أن يأتيكما من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك .
ووصف الطعام بجملة ترزقانه تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله .
[ ص: 271 ] وحقيقة الرزق : ما به النفع ، ويطلق على الطعام كقوله : وجد عندها رزقا أي طعاما ، وقوله في سورة الأعراف أو مما رزقكم الله ، وقوله : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا . ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله : وارزقوهم فيها واكسوهم . ومن هنا يطلق على العطاء الموقت ، يقال : كان بنو فلان من مرتزقة الجند ، ورزق الجند كذا كل يوم .
وضمير ( بتأويله ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير ( بتأويله ) الأول ، وهو المرئي أو المنام . ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافا لما سلكه جمهور المفسرين .
والاستثناء في قوله : إلا نبأتكما بتأويله استثناء من أحوال متعددة تناسب الغرض ، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه ، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما ، أي لا في حال عدمه . فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي .
وجردت جملة الحال من الواو " وقد " مع أنها ماضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله - تعالى : ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم
وجملة ذلكما مما علمني ربي استئناف بياني ؛ لأن وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم ، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصا إلى دعوتهما للإيمان بإله واحد . وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة .
وقوله : مما علمني ربي إيذان بأنه علمه علوما أخرى ، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم
وزاد في الاستيناف البياني جملة إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله لأن الإخبار بأن الله علمه التأويل وعلوما أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة [ ص: 272 ] حصول هذا العلم ، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك ملة أهل المدينة ، فأراد الله اختياره لهديهم ، ويجوز كون الجملة تعليلا .
والملة : الدين ، تقدم في قوله : دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا في سورة الأنعام .
وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شب بينهم ، كما يدل عليه قوله : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ، أو أراد الكنعانيين خاصة ، وهم الذين نشأ فيهم تعريضا بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك . وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالا لطائر نفورهم من موعظته .
وزيادة ضمير الفصل في قوله : هم كافرون أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب . وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء .
والترك : عدم الأخذ للشيء مع إمكانه . أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم ، وكون مولاه متدينا بها .
وذكر آباءه تعليما بفضلهم ، وإظهارا لسابقية الصلاح فيه ، وأنه متسلسل من آبائه ، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علمه ربه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي . ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي . ومثل هذه السلسلة في النبوة لم يجتمع لأحد غير أكرم الناس : يوسف - عليه السلام - إذا كان المراد بالنبوءة أكملها وهو الرسالة ، أو إذا كان إخوة يوسف - عليه السلام - غير أنبياء على رأي فريق من العلماء .
[ ص: 273 ] وأراد باتباع ملة آبائه اتباعها في أصولها قبل أن يعطى النبوة إذا كان فيما إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد ؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه ، كقوله - تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا إلى قوله : أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
وذكر السلف الصالح في الحق يزيد دليل الحق تمكنا ، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم . كما في قوله الآتي ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم
وجملة ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء في قوة البيان لما اقتضته جملة واتبعت ملة آبائي من كون التوحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافهم بين الأمم ، وعرفهم بها لنفسه في هذه الفرصة . ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف ، كما تقدم في قوله - تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب في سورة آل عمران ، وعند قوله - تعالى : قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق في آخر سورة العقود .
ومن في قوله : من شيء مزيدة لتأكيد النفي . وأدخلت على المقصود بالنفي .
وجملة ذلك من فضل الله علينا زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل .
وقوله : وعلى الناس أي الذين يتبعونهم ، وهو المقصود من الترغيب بالجملة .
وأتى الاستدراك بقوله : ولكن أكثر الناس لا يشكرون للتصريح بأن حال المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله ؛ لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونهم إليه خير وإنقاذ لهم من [ ص: 274 ] الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر .