عطف قصة على قصة ، فلا يلزم أن تكون هذه القصة حاصلة في الوجود بعد التي قبلها . وقد كان هذا الحادث قبل إيتائه النبوءة لأن إيتاء النبوءة غلب أن يكون في سن الأربعين . والأظهر أنه أوتي النبوة والرسالة بعد دخول أهله إلى مصر وبعد وفاة أبيه . وقد تعرضت الآيات لتقرير ثبات يوسف - عليه السلام - على العفاف والوفاء وكرم الخلق .
[ ص: 250 ] فالمراودة المقتضية تكرير المحاولة بصيغة المفاعلة ، والمفاعلة مستعملة في التكرير . وقيل : المفاعلة تقديرية بأن اعتبر العمل من جانب والممانعة من الجانب الآخر من العمل بمنزلة مقابلة العمل بمثله . والمراودة : مشتقة من راد يرود ، إذا جاء وذهب . شبه حال المحاول أحدا على فعل شيء مكررا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه ، فأطلق راود بمعنى حاول .
و عن للمجاوزة ، أي راودته مباعدة له عن نفسه ، أي بأن يجعل نفسه لها . والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه .
وأما تعديته بـ " على " فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله . ووقع في قول أبي هريرة أبا طالب على الإسلام : وفي حديث الإسراء فقال له أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - يراود عمه موسى : قد راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه .
والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله : التي هو في بيتها لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف - عليه السلام - لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوعه لمرادها .
و بيتها بيت سكناها الذي تبيت فيه . فمعنى هو في بيتها أنه كان حينئذ في البيت الذي هي به ، ويجوز أن يكون المراد بالبيت المنزل كله ، وهو قصر العزيز . ومنه قولهم : ربة البيت ، أي زوجة صاحب الدار ويكون معنى هو في بيتها أنه من جملة أتباع ذلك المنزل .
وغلق الأبواب : جعل كل باب سادا للفرجة التي هو بها .
وتضعيف غلقت لإفادة شدة الفعل وقوته ، أي أغلقت إغلاقا محكما .
[ ص: 251 ] والأبواب : جمع باب . وتقدم في قوله - تعالى : ادخلوا عليهم الباب .
و هيت اسم فعل أمر بمعنى بادر . قيل أصلها من اللغة الحورانية ، وهي نبطية . وقيل : هي من اللغة العبرانية .
واللام في لك لزيادة بيان المقصود بالخطاب ، كما في قولهم : سقيا لك ، وشكرا لك . وأصله : هيتك . ويظهر أنها طلبت منه أمرا كان غير بدع في قصورهم بأن تستمتع المرأة بعبدها كما يستمتع الرجل بأمته ، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب بل ابتدأته بالتمكين من نفسها . وسيأتي لهذا ما يزيده بيانا عند قوله - تعالى : قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا .
وفي " هيت " لغات . قرأ نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية . وقرأه ابن كثير بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية . وقرأه الباقون بفتح الهاء وسكون التحتية وفتح التاء الفوقية ، والفتحة والضمة حركتا بناء .
و معاذ مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله . وأصله : أعوذ عوذا بالله ، أي أعتصم به مما تحاولين . وسيأتي بيانه عند قوله : قال معاذ الله أن نأخذ في هذه السورة .
و " إن " مفيدة تعليل ما أفاده معاذ الله من الامتناع والاعتصام منه بالله المقتضي أن الله أمر بذلك الاعتصام .
وضمير إنه يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة ، ويكون ربي بمعنى خالقي . ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يمسها غيره ، فهو معلوم بدلالة العرف ، ويكون ربي بمعنى سيدي ومالكي .
وهذا من الكلام الموجه توجيها بليغا حكي به كلام يوسف - عليه السلام - ، إما لأن يوسف - عليه السلام - أتى بمثل هذا التركيب في لغة [ ص: 252 ] القبط ، وإما لأنه أتى بتركيبين عذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه .
وأيا ما كان فالكلام تعليل لامتناعه وتعريض بها في خيانة عهدها .
وفي هذا الكلام عبرة عظيمة من العفاف والتقوى . وعصمة الأنبياء قبل النبوءة من الكبائر
وذكر وصف الرب على الاحتمالين لما يؤذن به من وجوب طاعته وشكره على نعمة الإيجاد بالنسبة إلى الله ، ونعمة التربية بالنسبة لمولاه العزيز .
وأكد ذلك بوصفه بجملة أحسن مثواي ، أي جعل آخرتي حسنى ، إذ أنقذني من الهلاك ، أو أكرم كفالتي . وتقدم آنفا تفسير المثوى .
وجملة إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان للامتناع . والضمير المجعول اسما لـ " إن " ضمير الشأن يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرا عنه لأنها موعظة جامعة . وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم ؛ لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة ، وظلم سيده الذي آمنه على بيته وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجا وأحصنها .
والهم : العزم على الفعل . وتقدم عند قوله - تعالى : وهموا بما لم ينالوا في سورة براءة . وأكد همها بـ قد ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزما محققا .
وجملة ولقد همت به مستأنفة استئنافا ابتدائيا . والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة . والمقصود من ذكر همها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم .
وجملة وهم بها لولا أن رأى برهان ربه معطوفة على جملة ولقد همت به كلها . وليست معطوفة على جملة همت التي هي جواب القسم [ ص: 253 ] المدلول عليه باللام ؛ لأنه لما أردفت جملة وهم بها بجملة شرط لولا المتمحض لكونه من أحوال يوسف - عليه السلام - وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها . فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به . ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب لولا بها لأنه ليس لازما ولأنه لما قدم على لولا كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : ولقد همت به ليظهر معنى الابتداء بجملة وهم بها واضحا . وبذلك يظهر أن يوسف - عليه السلام - لم يخالطه هم بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهم بالمعصية بما أراه من البرهان .
قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : ولقد همت به وهم بها الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها .
وطعن في هذا التأويل بأن جواب لولا لا يتقدم عليها . ويدفع هذا الطعن أن الطبري أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب لولا ، على أنه قد يجعل المذكور قبل لولا دليلا للجواب والجواب محذوفا لدلالة ما قبل لولا عليه . ولا مفر من ذلك على كل تقدير فإن لولا وشرطها تقييد لقوله : وهم بها على جميع التأويلات ، فما يقدر من الجواب يقدر على جميع التأويلات .
وقال جماعة : هم يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكف على ذلك لما رأى برهان ربه . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعلب . وبيان هذا أنه انصرف عما هم به بحفظ الله أو بعصمته ، والهم بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور [ ص: 254 ] وفيه خلاف ، ولذلك جوز عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة ذلك على ابن عباس يوسف . وقال جماعة : هم يوسف وأخذ في التهيؤ لذلك فرأى برهانا صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك . وهذا قول ورواية عن السدي ، . وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله . ابن عباس
وقد خبط صاحب الكشاف في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التأويلات " رمتني بدائها وانسلت " ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف - عليه السلام - قتله والقتل أشد .
والرؤية : هنا علمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر .
والبرهان : الحجة . وهذا البرهان من جملته صرفه عن الهم بها ، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهم بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفر دواعي الهم من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها . ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهم بها دون شيء آخر .
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له .
والإشارة في قوله : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إلى شيء مفهوم مما قبله يتضمنه قوله : رأى برهان ربه ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء .
والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء [ ص: 255 ] يوشك أن يلابس شيئا . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .
والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية ، وهي الزنا . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله - تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء في سورة البقرة . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .
وجملة إنه من عبادنا المخلصين تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس .
قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، ، والكسائي وأبو جعفر ، وخلف المخلصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .
والاستباق : افتعال من السبق . وتقدم آنفا ، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق ، أي إن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب .
وانتصب ( الباب ) على نزع الخافض . وأصله : واستبقا إلى الباب ، مثل واختار موسى قومه سبعين رجلا ، أي من قومه ، أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا .
والتعريف في الباب تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة . وذلك أن يوسف - عليه السلام - فر من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه .
وجملة وقدت قميصه في موضع الحال . و قدت أي قطعت ، أي قطعت منه قدا ، وذلك قبل الاستباق لا محالة . لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف - عليه السلام - أنها راودته ، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف - عليه السلام - سبقها مسرعا إلى الباب ، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد [ ص: 256 ] إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة . وكان قطع القميص من دبر لأنه كان موليا عنها معرضا فأمسكته منه لرده عن إعراضه .
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة واستبقا الباب وقدت قميصه .
وصادف أن ألفيا سيدها ، أي زوجها ، وهو العزيز ، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي . وإطلاق السيد على الزوج قيل : إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ ، كانوا يدعون الزوج سيدا . والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملا في عادة العرب ، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالبا . وقد علم من الكلام أن يوسف - عليه السلام - فتح الأبواب التي غلقتها زليخا بابا بابا حتى بلغ الخارجي ، كل ذلك في حال استباقهما ، وهو إيجاز .
والإلفاء : وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه ، فالأكثر أن يكون مفاجئا ، أو حاصلا عن جهل بأول حصول ، كقوله - تعالى : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .
وجملة قالت ما جزاء إلخ مستأنفة بيانيا ؛ لأن السامع يسأل : ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة .
وابتدرته بالكلام إمعانا في البهتان بحيث لم تتلعثم ، تخيل له أنها على الحق ، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون ، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها . ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف - عليه السلام - مانعة له من عقابه ، فأفرغت كلامها في قالب كلي . وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها ، وأن تخيف يوسف - عليه السلام - من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى .
[ ص: 257 ] ورددت يوسف - عليه السلام - بين صنفين من العقاب ، وهما : السجن ، أي الحبس . وكان الحبس عقابا قديما في ذلك العصر ، واستمر إلى زمن موسى - عليه السلام - ، فقد قال فرعون لموسى - عليه السلام - لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين .
وأما العذاب فهو أنواع ، وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر . ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء . وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مرارا .
وجملة قال هي راودتني عن نفسي من قول يوسف - عليه السلام - ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة مع كلامها . ومخالفة التعبير بين أن يسجن أو عذاب دون أن يقول : إلا السجن أو عذاب ؛ لأن لفظ السجن يطلق على البيت الذي يوضع فيه المسجون ويطلق على مصدر سجن ، فقوله : أن يسجن أوضح في تسلط معنى الفعل عليه .
وتقديم المبتدأ على خبره الذي هو فعل يفيد القصر ، وهو قصر قلب للرد عليها . وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته ، وهو الذي شهد وكان فطنا عارفا بوجوه الدلالة .
وسمي قوله شهادة لأنه يئول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف - عليه السلام - على سيدته أو دحضه . وهذا من القضاء بالقرينة البينة لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قبل ، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض . ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه ، ولولا ذلك ما خطر ببال المشاهد أن تمزيقا وقع وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص . والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلا على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف - عليه السلام .
[ ص: 258 ] وجملة إن كان قميصه مبينة لفعل شهد .
وزيادة وهو من الكاذبين بعد فصدقت ، وزيادة وهو من الصادقين بعد فكذبت تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو شأن الأحكام .
وأدوات الشرط لا تدل على أكثر من الربط والتسبب بين مضمون شرطها ومضمون جوابها من دون تقييد باستقبال ولا مضي . فمعنى إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وما بعدها : أنه إن كان ذلك حصل في الماضي فقد حصل صدقها في الماضي .
والذي رأى قميصه قد من دبر وقال : إنه من كيدكن ، هو العزيز لا محالة . وقد استبان لديه براءة يوسف - عليه السلام - من الاعتداء على المرأة فاكتفى بلوم زوجه بأن ادعاءها عليه من كيد النساء ؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها فدخل فيه من هن من صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر .
والكيد : فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود . وقد تقدم عند قوله - تعالى : إن كيدي متين في سورة الأعراف .
ثم أمر يوسف - عليه السلام - بالإعراض عما رمته به ، أي عدم مؤاخذتها بذلك ، وبالكف عن إعادة الخوض فيه . وأمر زوجه بالاستغفار من ذنبها ، أي في اتهامها يوسف - عليه السلام - بالجرأة والاعتداء عليها .
قال المفسرون : وكان العزيز قليل الغيرة . وقيل : كان حليما عاقلا . ولعله كان مولعا بها ، أو كانت شبهة الملك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها . وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف - عليه السلام - حين بادرته بقولها " هيت لك " كما تقدم آنفا .
[ ص: 259 ] والخاطئ : فاعل الخطيئة ، وهي الجريمة . وجعلها من زمرة الذين خطئوا تخفيفا في مؤاخذتها . وصيغة جمع المذكر تغليب .
وجملة يوسف أعرض عن هذا من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم .
وجملة واستغفري لذنبك عطفت على جملة يوسف أعرض في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف . وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز ، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف - عليه السلام - بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة .
وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال ، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند ، وهو عزيز في الكلام البليغ . ومنه قول الالتفات البلاغي الجرمي من طي من شعراء الحماسة :
إخالك موعدي ببني جفيف وهالة إنني أنهاك هـالا
قال المرزوقي في شرح الحماسة : والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعا وأخصهم بالحال .