تفريع حكاية الذهاب به والعزم على إلقائه في الجب على حكاية المحاورة بين يعقوب - عليه السلام - وبنيه في محاولة الخروج بيوسف - عليه السلام - إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب - عليه السلام - حتى أقنعوه فأذن ليوسف - عليه السلام - بالخروج معهم ، وهو إيجاز .
والمعنى : فلما أجابهم يعقوب - عليه السلام - إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب .
وفعل " أجمع " يتعدى إلى المفعول بنفسه . ومعناه : صمم على الفعل ، فقوله : أن يجعلوه هو مفعول ( وأجمعوا ) .
وجواب " لما " محذوف دل عليه " أن يجعلوه في غيابات الجب " ، والتقدير : جعلوه في الجب . ومثله كثير في القرآن . وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللفظ لظهور المعنى .
وجملة وأوحينا إليه معطوفة على جملة وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب ؛ لأن هذا الموحى من مهم عبر القصة .
وقيل : الواو مزيدة وجملة ( أوحينا ) هو جواب " لما " ، وقد قيل بمثل ذلك في قول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
. . . البيت .وقيل به في قوله - تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم الآية ، وفي جميع ذلك نظر .
[ ص: 234 ] والضمير في قوله : ( إليه ) عائد إلى يوسف - عليه السلام - في قول أكثر المفسرين مقتصرين عليه . وذكر ابن عطية أنه قيل الضمير عائد إلى يعقوب - عليه السلام - .
وجملة لتنبئنهم بأمرهم هذا بيان لجملة أوحينا . وأكدت باللام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال . فعلى الأول فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس يوسف - عليه السلام - حين كيدهم له ، ويحتمل أنه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا ليوسف - عليه السلام - قبل النبوة رحمة من الله ليزيل عنه كربه ، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له ، وإيذان بأنه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة ، وبأنه سينبئ في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية ، وذلك يستلزم نجاته وتمكنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكن منهم وأمن من شرهم .
ومعنى بأمرهم : بفعلهم العظيم في الإساءة .
وجملة وهم لا يشعرون في موضع الحال ، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها ، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله - تعالى : قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه الآيتين .
وعلى احتمال عود ضمير إليه على يعقوب - عليه السلام - فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك ، والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة فلما ذهبوا به إلى آخرها وأوحينا إليه قبل ذلك . و ( لتنبئنهم ) أمر ، أي أوحينا إليه نبئهم بأمرهم هذا ، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف [ ص: 235 ] - عليه السلام - ، إشعارا بالتعريض ، وذلك في قوله : وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون .
وجملة وهم لا يشعرون على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين ، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك .
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف - عليه السلام - وقع في التوراة أنه في أرض ( دوثان ) ، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا . والمراد : أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع . ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل . واتفق واصفو الجب على أنه بين ( بانياس ) و ( طبرية ) . وأنه على اثني عشر ميلا من طبرية مما يلي دمشق ، وأنه قرب قرية يقال لها ( سنجل ) أو ( سنجيل ) . قال قدامة : هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية .
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر . وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على ( دوثان ) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق ، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في دوثان . وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد ، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن .