عطف قصة على قصة .
وتأكيد الخبر بحرف ( قد ) للاهتمام به كما تقدم في قوله : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه
[ ص: 116 ] والغرض من هذه القصة هو لوط إذ عصوا رسول ربهم فحل بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة الموعظة بمصير قوم إبراهيم . وقدمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربه على وجه الإدماج ، ولذلك غير أسلوب الحكاية في القصص التي قبلها والتي بعدها نحو ( وإلى عاد ) إلخ .
والرسل : الملائكة . قال - تعالى : جاعل الملائكة رسلا
والبشرى : اسم للتبشير والبشارة . وتقدم عند قوله - تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات في أول سورة البقرة . هذه البشرى هي التي في قوله : فبشرناها بإسحاق لأن بشارة زوجه بابن بشارة له أيضا .
والباء في ( بالبشرى ) للمصاحبة لأنهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها .
وجملة قالوا سلاما في موضع البيان للبشرى ؛ لأن قولهم ذلك مبدأ البشرى ، وإن ما اعترض بينها حكاية أحوال ، وقد انتهى إليها في قوله : فبشرناها بإسحاق إلى قوله إنه حميد مجيد
والسلام : التحية . وتقدم في قوله : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم في سورة الأنعام .
و ( سلاما ) مفعول مطلق وقع بدلا من الفعل . والتقدير : سلمنا سلاما .
و ( سلام ) المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : أمري سلام ، أي لكم ، مثل ( فصبر جميل ) . ورفع المصدر أبلغ من نصبه ؛ لأن الرفع فيه تنامي معنى الفعل فهو أدل على الدوام والثبات . ولذلك خالف بينهما للدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - رد السلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام .
قال ابن عطية : حيا الخليل بأحسن مما حيي به ، أي نظرا إلى الأدب الإلهي الذي علمه لنا في القرآن بقوله : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ ص: 117 ] فحكي ذلك بأوجز لفظ في العربية أداء لمعنى كلام إبراهيم - عليه السلام - في الكلدانية .
وقرأ الجمهور قال سلام - بفتح السين وبألف بعد اللام - . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : ( قال سلم ) - بكسر السين وبدون ألف بعد اللام - وهو اسم المسالمة . وسميت به التحية كما سميت بمرادفه ( سلام ) فهو من باب اتحاد وزن فعال وفعل في بعض الصفات مثل : حرام وحرم ، وحلال وحل .
والفاء في قوله : فما لبث للدلالة على التعقيب إسراعا في ، وتعجيل القرى سنة عربية : ظنهم إكرام الضيف إبراهيم - عليه السلام - ناسا فبادر إلى قراهم .
واللبث في المكان يقتضي الانتقال عنه ، أي فما أبطأ . و ( أن جاء ) يجوز أن يكون فاعل ( لبث ) ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ ، أي فما أبطأ مجيئه مصاحبا له ، أي بل عجل . ويجوز جعل فاعل لبث ضمير إبراهيم - عليه السلام - فيقدر جار لـ ( جاء ) . والتقدير : فما لبث بأن جاء به . وانتفاء اللبث مبالغة في العجل .
والحنيذ : المشوي ، وهو المحنوذ . والشي أسرع من الطبخ ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف .
و ( لا تصل إليه ) أشد في عدم الأخذ من ( لا تتناوله )
ويقال : نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه .
وإنما نكرهم لأنه حسب أن إمساكهم عن الأكل لأجل التبرؤ من طعامه ، وإنما يكون ذلك في عادة الناس في ذلك الزمان إذا كان النازل بالبيت يضمر شرا لمضيفه ؛ لأن أكل طعام القرى كالعهد على السلامة من الأذى ؛ لأن الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة ، فإذا انكف أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفورا للإحسان .
[ ص: 118 ] ولذلك عقب قوله : ( نكرهم ) بـ أوجس منهم خيفة ، أي أحس في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك . ومصدره الإيجاس . وذلك أنه خشي أن يكونوا مضمرين شرا له ، أي حسبهم قطاعا ، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم - عليه السلام - وحده .
وجملة قالوا لا تخف مفصولة عما قبلها ؛ لأنها أشبهت الجواب ؛ لأنه لما أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه ، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إني خفت منكم ، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم لا تخف ، فحكي ذلك عنهم بالطريقة التي تحكى بها المحاورات ، أو هو جواب كلام مقدر دل عليه قوله : فأوجس منهم خيفة ، أي وقال لهم : إني خفت منكم ، كما حكي في سورة الحجر قال إنا منكم وجلون . ومن شأن الناس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له : لعلك غادر أو عدو ، وقد كانوا يقولون للوافد : أحرب أم سلم .
وقولهم إنا أرسلنا إلى قوم لوط مكاشفة منهم إياه بأنهم ملائكة . والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم .
والحكمة من ذلك كرامة إبراهيم - عليه السلام - وصدورهم عن علم منه .
وحذف متعلق ( أرسلنا ) أي بأي شيء ، إيجازا لظهوره من هذه القصة وغيرها .
وعبر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة ( قوم لوط ) إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطا من فصائل عرفوا بأسماء قراهم ، وأشهرها سدوم كما تقدم في الأعراف .
وجملة وامرأته قائمة فضحكت في موضع الحال من ضمير أوجس ؛ لأن امرأة إبراهيم - عليه السلام - كانت حاضرة تقدم الطعام إليهم ، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أن ربة المنزل تكون خادمة القوم : وفي الحديث " " . وقال والعروس خادمهم مرة بن محكان التميمي :
[ ص: 119 ]
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رجال القوم والغربا
وقد اختصرت القصة هنا اختصارا بديعا لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم - عليه السلام - ، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . وأما البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة الذاريات فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم . فلما اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة قالوا لا تخف حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال ؛ لأن الحال تصلح للقبلية وللمقارنة وللبعدية ، وهي الحال المقدرة .
وإنما ضحكت امرأة إبراهيم - عليه السلام - من تبشير الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام ، وكان ضحكها ضحك تعجب واستبعاد . وقد وقع في التوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين وقالوا له : أين سارة امرأتك ؟ فقال : ها هي في الخيمة . فقالوا : يكون لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة : أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت ؟ فقال الرب : لماذا ضحكت سارة ؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك ؛ لأنها خافت ، قال : لا بل ضحكت .
وتفريع فبشرناها بإسحاق على جملة ضحكت باعتبار المعطوف وهو ومن وراء إسحاق يعقوب لأنها ما ضحكت إلا بعد أن بشرها الملائكة بابن ، فلما تعجبت من ذلك بشروها بابن الابن زيادة في البشرى . والتعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتى يولد لابنها ابن . وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالبا إلا معلولين ، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم .
ولما بشروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك ، فقالت [ ص: 120 ] يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ، فجملة قالت جواب للبشارة .
و يعقوب مبتدأ ومن وراء إسحاق خبر ، والجملة على هذا في محل الحال . وهذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص يعقوب بفتحة وهو حينئذ عطف على إسحاق . وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه ، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في مغني اللبيب .
والنداء في ( يا ويلتا ) استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتى تنادى ، كأنها تقول : يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك .
والويلة : الحادثة الفظيعة والفضيحة . ولعلها المرة من الويل . وتستعمل في مقام التعجب ، يقال : يا ويلتي .
واتفق القراء على قراءة يا ويلتا - بفتحة مشبعة في آخره بألف - . والألف التي في آخر ( يا ويلتا ) هنا يجوز كونها عوضا عن ياء المتكلم في النداء . والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلفا عن لام الاستغاثة . وأصله : يا لويلة . وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجب بلفظ عجب ، نحو : يا عجبا ، وباسم شيء متعجب منه ، نحو : يا عشبا .
وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة ، قال : كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم . الزجاج
والاستفهام في أألد وأنا عجوز مستعمل في التعجب . وجملة أنا عجوز في موضع الحال ، وهي مناط التعجب .
والبعل : الزوج . وسيأتي بيانه عند تفسير قوله - تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن في سورة النور ، فانظره .
[ ص: 121 ] وزادت تقرير التعجب بجملة إن هذا لشيء عجيب وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتصال ، وكأنها كانت مترددة في أنهم ملائكة فلم تطمئن لتحقيق بشراهم .
وجملة ( هذا بعلي ) مركبة من مبتدأ وخبر لأن المعنى : هذا المشار إليه هو بعلي ، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى . وانتصب ( شيخا ) على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة .
وقرأ ( وهذا بعلي شيخ ) - برفع شيخ - على أن ( بعلي ) بيان من هذا و شيخ خبر المبتدأ . ومعنى القراءتين واحد . ابن مسعود
وقد جرت على هذه القراءة نادرة لطيفة وهي ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم بو حاجب أن دعي عند بعض الأعيان في أبا العباس المبرد بغداد إلى مأدبة ، فلما فرغوا من الطعام غنت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين :
وقالوا لها هذا حبيبك مـعـرض فقالت : ألا إعراضه أهون الخطب
فما هي إلا نظرة وابـتـسـامة فتصطك رجلاه ويسقط للجنـب
فطرب كل من بالمجلس إلا فلم يتحرك ، فقال له رب المنزل : ما لك لم يطربك هذا ؟ فقالت الجارية : معذور يحسبني لحنت في أن قلت : معرض بالرفع ولم يعلم أن أبا العباس المبرد قرأ ( وهذا بعلي شيخ ) فطرب عبد الله بن مسعود لهذا الجواب . المبرد
وجواب الملائكة إياها بجملة أتعجبين من أمر الله إنكار لتعجبها لأنه تعجب مراد منه الاستبعاد . وأمر الله هو أمر التكوين ، أي أتعجبين من [ ص: 122 ] قدرة الله على خرق العادات . وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبئ عن أمر الله .
وجملة رحمة الله وبركاته عليكم تعليل لإنكار تعجبها ؛ لأن الإنكار في قوة النفي ، فصار المعنى : لا عجب من أمر الله لأن إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة ، فلا عجب في تعلق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم .
ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إما أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم - عليه السلام - وامرأته فكان قولهم رحمة الله وبركاته عليكم مفيدا تعليل انتفاء العجبين .
وتعريف البيت تعريف حضور ، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور ، أي بيت إبراهيم - عليه السلام . والمعنى أهل هذا البيت .
والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصا لزيادة بيان المراد من ضمير الخطاب .
وجملة إنه حميد مجيد تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأن الله يحمد من يطيعه ، وبأنه مجيد ، أي عظيم الشأن لا حد لنعمه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولدا ، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله - تعالى - على إبراهيم - عليه السلام - وأهله .