موقع الآية يقتضي أن نداء نوح - عليه السلام - هذا كان بعد استواء السفينة على الجودي نداء دعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدنيا ؛ لأن الله أعلمه أنه لا نجاة إلا للذين يركبون السفينة ، ولأن نوحا - عليه السلام - لما دعا ابنه إلى ركوب السفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعين أنه سأل له المغفرة ويدل لذلك قوله - تعالى : فلا تسألني ما ليس لك به علم كما سيأتي .
ويجوز أن يكون دعاء نوح - عليه السلام - هذا وقع قبل غرق الناس ، أي نادى ربه أن ينجي ابنه من الغرق .
[ ص: 84 ] ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا ، أي نادى ربه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة .
والنداء هنا نداء دعاء فكأنه قيل : ودعا نوح ربه ؛ لأن الدعاء يصدر بالنداء غالبا ، والتعبير عن الجلالة بوصف الرب مضافا إلى نوح - عليه السلام - تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهي عتاب .
وجملة فقال رب إن ابني من أهلي بيان للنداء ، ومقتضى الظاهر أن لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله - تعالى : إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني ، وخولف ذلك هنا . ووجه في الكشاف اقترانه بالفاء بأن فعل ( نادى ) مستعمل في إرادة النداء ، أي مثل فعل ( قمتم ) في قوله - تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإن وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل نادى مستعار لمعنى إرادة النداء ، أي أراد نداء ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء ، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردد في الإقدام عليه لما علم من قوله - تعالى : إلا من سبق عليه القول منهم فلم يطل تردده لما غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه ، ولذلك قدم الاعتذار بقوله : إن ابني من أهلي . فقوله : إن ابني من أهلي خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنه يريد أن يسأل سؤالا لا يدري قبوله ولكنه اقتحمه لأن المسئول له من أهله فله عذر الشفقة عليه . وتأكيد الخبر بـ إن للاهتمام به .
وكذلك جملة وإن وعدك الحق خبر مستعمل في لازم الفائدة . وهو أنه يعلم أن وعد الله حق .
والمراد بالوعد ما في قوله - تعالى : إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق [ ص: 85 ] من الله تقدير بأنه لا يركب السفينة . وهذا الموصول متعين لكونه صادقا على ابنه إذ ليس غيره من أهله طلب منه ركوب السفينة وأبى ، وأن من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم ، أي كافر ، وأنه مغرق ، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر . فالمعنى : أن نوحا - عليه السلام - لا يجهل أن ابنه كافر ، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر ، ولكنه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به ، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى ، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه .
وقرينة ذلك كله قوله : وأنت أحكم الحاكمين المفيد أنه لا راد لما حكم به وقضاه ، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه ، ولكنه مقام تضرع وسؤال ما ليس بمحال .
وقد كان نوح - عليه السلام - غير منهي عن ذلك ، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين ، فكان حال نوح - عليه السلام - كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لأبي طالب قبل أن ينزل قوله - تعالى : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية .
والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره ، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسئول استغناء بعلم المسئول كأنه يقول : أسألك أم أترك ، كقول : أمية بن أبي الصلت
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك أن شيمتك الحياء
ومعنى أحكم الحاكمين أشدهم حكما . واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل ، فيفيد أن حكمه لا يجور وأنه لا يبطله أحد .
ومعنى قوله - تعالى : إنه ليس من أهلك نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالا لقول نوح - عليه السلام - إن ابني من أهلي ولكنه إعلام بأن ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال . قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة
[ ص: 86 ] قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجـورا فإني لست منك ولست مني
وقال - تعالى : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون
وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته .
وجملة إنه عمل غير صالح تعليل لمضمون جملة إنه ليس من أهلك فـ إن فيه لمجرد الاهتمام .
و ( عمل ) في قراءة الجمهور - بفتح الميم وتنوين اللام - مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع ( غير ) على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه ، الكسائي ويعقوب ( عمل ) بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب ( غير ) على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر عمل لأنه عمل القلب ، ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يسأل ما ليس له به علم نهي عتاب ؛ لأنه لما قيل له إنه ليس من أهلك بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقا بأن لا يسأله وأن يتدبر ما أراد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر فلا تسألني - بتشديد النون - وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبت ياء المتكلم من عدا ابن كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ ( فلا تسألن ) - بنون مشددة مفتوحة - .
وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، ، والكسائي ويعقوب ، وخلف [ ص: 87 ] ( فلا تسألن ) بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل . وأثبتها في الوصل عن ورش نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح - عليه السلام - لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهي تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤلا لا يعلم إجابته . وهذا كقوله - تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وقوله : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : وإن وعدك الحق . وكان سؤاله المغفرة لابنه طلبا تخصيصه من العموم . وكان نهيه نهي لوم وعتاب حيث لم يتبين من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : ما ليس لك به علم محتملا لظاهره ، ومحتملا لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح - عليه السلام - إن ابني من أهلي إلى آخره تعريضا بالمسئول كان النهي في قوله : فلا تسألني ما ليس لك به علم نهيا عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح - عليه السلام - مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله - تعالى : فلا تسألني نهيا عن الإفضاء بالسؤال الذي مهد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تعريض سؤاله للرد .
وعلى كل الوجوه فقوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين موعظة على ترك التثبت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : ما ليس لك به علم
[ ص: 88 ] فأجاب نوح - عليه السلام - كلام ربه بما يدل على التنصل مما سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم ، فإن كان نوح - عليه السلام - أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل ؛ وإن كان إنما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة ، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال .
وقوله : وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة .
وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح - عليه السلام - سؤالا لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وعرة متنائية ، ولقوا عناء في الاتصال بينها ، والآية بمعزل عنها ، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها .