انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب ، وفي ذلك تسلية للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بما لاقاه الرسل عليهم السلام قبله من أقوامهم .
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية .
وأكدت الجملة بلام القسم وقد لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته .
[ ص: 44 ] وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة إني بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال ، أي قائلا .
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ، والكسائي وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف - بفتح الهمزة - على تقدير حرف جر وهو الباء للملابسة ، أي أرسلناه متلبسا بذلك ، أي بمعنى المصدر المنسبك من أني نذير ، أي متلبسا بالنذارة البينة .
وتقدم الكلام على نوح - عليه السلام - وقومه عند قوله - تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا في آل عمران . وعند قوله : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه في سورة الأعراف .
وجملة لا تعبدوا إلا الله مفسرة لجملة أرسلنا لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز كونها تفسيرا لـ نذير لما في " نذير " من معنى القول ، كقوله في سورة نوح قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه . وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة أني إذا اعتبرت أن تفسيرية . ويجوز جعل أن مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من ( أني لكم نذير مبين ) على قراءة - فتح الهمزة - واسمها ضمير شأن محذوف ، أي أنه لا تعبدوا إلا الله .
وجملة إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم تعليل لـ " نذير " لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه .
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ; لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما ، أي مؤلما .
وجملة أخاف عليكم ونحوها مثل أخشى عليك ، تستعمل للتوقع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به ، كقول لبيد :
أخشى على أربد الحتوف ولا أخشى عليه الرياح والمطرا
فيتعدى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف على كما في الآية وبيت لبيد .
[ ص: 45 ] والعذاب هنا نكرة في المعنى ; لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح - عليه السلام - بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة . ولذلك قال في كلامه الآتي إنما يأتيكم به الله إن شاء على ما يأتي هنالك . وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر ، وهو مقطوع به لأن الله يقرن الوعيد بالدعوة ، فلذلك قال نوح - عليه السلام - في كلامه الآتي وما أنتم بمعجزين ، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . ولعل في كلام نوح - عليه السلام - ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان .