وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم
تفريع على ما تقدم من المحاورة ، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود ، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازا . والتقدير : تفرع على ذلك تصميم على الإعراض .
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض ، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامها ما ألقوه من سحرهم ، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ [ ص: 259 ] المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة .
وفعل آمن أصله ( أأمن ) بهمزتين : إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة ، والثانية همزة مزيدة للتعدية ، أي جعله ذا أمانة ، أي غير كاذب فصار فعل آمن بمعنى صدق ، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ( آمن ) بمعنى صدق من الأمانة وبين ( آمن ) بمعنى جعله في أمن ، أي لا خوف عليه منه .
وهذه اللام سماها ابن مالك لام التبيين وتبعه ابن هشام ، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية ، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل آمن بمعنى صدق دفع أن يلتبس بفعل آمنه إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله - تعالى : وقالوا لن نؤمن لك في سورة الإسراء .
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدق كما في قوله - تعالى : قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
والذرية : الأبناء وتقدم في قوله : ذرية بعضها من بعض في سورة آل عمران .
أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذ .
وعلى في قوله : على خوف من فرعون بمعنى مع مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ذرية ، أي في حال خوفهم المتمكن منهم .
وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون .
والمعنى : أنهم آمنوا عند ظهور معجزته ، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار . أي من الحاضرين [ ص: 260 ] في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء ، كما يقال : الغلمان ، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم ، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به ، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله : اذهبا إلى فرعون إنه طغى فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر .
والملأ تقدم آنفا في هذه القصة ، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم ، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها .
والفتن إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله ، وتقدم في قوله - تعالى : والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة . فهذا وجه تفسير الآية .
وجملة وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين في موضع الحال فهي عطف على قوله : على خوف من فرعون وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون ، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد ، فبعد أن أثنى عليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف ، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم ، ومن ملئهم ، أي قومهم ، وهو خوف شديد ; لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسة قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفرا منهم ، ثم أتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور ، ومن هذه حالته لا يزعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع .
[ ص: 261 ] وتأكيد الخبر بـ إن للاهتمام بتحقيق فرعون . بطش
والعلو : مستعار للغلبة والاستبداد ، كقوله - تعالى : إن فرعون علا في الأرض وقوله : ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين
: تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل ، فهو تجاوز مذموم ، وأشهر موارده في الإنفاق ، ولم يذكر متعلق الإفراط فتعين أن يكون إسرافا فيما عرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة . والإسراف
وقوله : من المسرفين أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال : وإنه لمسرف لما تقدم عند قوله - تعالى : ضللت إذا وما أنا من المهتدين في الأنعام .