كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب ، وأمرا للمؤمنين بالجهاد ، وإنحاء على المقصرين في شأنه . وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة .
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - والتنويه بصفاته الجامعة للكمال . ومن أخصها حرصه على هداهم ، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفا رحيما بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم . وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله - تعالى - مقارنة لبعثة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة ، وكذلك عادة القرآن . فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها .
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا . وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة .
فالخطاب بقوله : جاءكم وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام .
والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب بالمؤمنين رءوف رحيم وسيجيء أن المقصود العرب .
[ ص: 71 ] وافتتاحها بحرفي التأكيد وهما اللام و ( قد ) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره ، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولا من الله ، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء ، ولأن في هذا التأكيد تسجيلا عليهم مرادا به الإيماء إلى اقتراب الرحيل ; لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه ، وهو تسجيل منه على المؤمنين ، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين . على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله - تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين وكقوله - تعالى - يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار .
والمجيء : مستعمل مجازا في الخطاب بالدعوة إلى الدين . شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر . وهو استعمال شائع في القرآن .
والأنفس : جمع نفس ، وهي الذات . ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير ، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق . يقال : هو قريشي من أنفسهم ، ويقال : القريشي مولاهم أو حليفهم ، فمعنى من أنفسكم من صميم نسبكم ، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذ لا يعدون العرب ومن حالفهم وتولاهم مثل سلمان الفارسي وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم ، وفيه أيضا تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناوأته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال - تعالى - في ذكر القرآن وبلال الحبشي ، وإنه لذكر لك ولقومك أي يبقى منه لكم ذكر حسن .
[ ص: 72 ] والعزيز : الغالب . والعزة : الغلبة . يقال عزه إذا غلبه . ومنه وعزني في الخطاب ، فإذا عدي بـ ( على ) دل على معنى الثقل والشدة على النفس . قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه :
فقلت له يعز علي أنـي قتلت مناسبي جلدا وقهرا
و ( ما ) مصدرية .
و عنتم : تعبتم . والعنت : التعب ، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم . وهذا كقوله : لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين وذكر هذا في صفة الرسول - عليه السلام - يفيد أن هذا خلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة . ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب . ثم إن ذلك يومئ إلى أن شرعه جاء مناسبا لخلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال - تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال وما جعل عليكم في الدين من حرج .
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع ( ما ) المصدرية السابكة للمصدر نكتة . وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى ، وذلك بما لقوه من قتل قومهم ، ومن الأسر في الغزوات ، ومن قوارع الوعيد والتهديد في القرآن . فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيرا إلى عنت معين ولا إلى عنت وقع لأن المصدر لا زمان له بل كان محتملا أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه ، ولكن مجيء المصدر منسبكا من الفعل الماضي يجعله مصدرا مقيدا بالحصول في الماضي ، ألا ترى أنك تقدره هكذا : عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى ، لتكون هذه الآية تنبيها على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم .
والحرص : شدة الرغبة في الشيء والجشع إليه . ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فهم من مقام التشريع ، فيقدر : على إيمانكم أو هديكم .
[ ص: 73 ] والرءوف : الشديد الرأفة . والرحيم : الشديد الرحمة ; لأنهما صيغتا مبالغة ، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو ( بالمؤمنين ) .
والرأفة : رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءوف به . يقال : رءوف رحيم . والرحمة : رقة تقتضي الإحسان للمرحوم ، بينهما عموم وخصوص مطلق ، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمهما مختلفة . وتقدمت الرأفة عند قوله - تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم في سورة البقرة . والرحمة في سورة الفاتحة .
وتقديم المتعلق على عامليه المتنازعينه في قوله : بالمؤمنين رءوف رحيم للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتي رأفته ورحمته بهم . وأما رحمته العامة الثابتة بقوله - تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم ، ولا يقال : بهم رءوف رحيم .
والفاء في قوله : فإن تولوا للتفريع على إرسال النبيء - صلى الله عليه وسلم - صاحب هذه الصفات إليهم ، فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رءوف رحيم بمن يتبعه منهم ، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك ، وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه . وقد دل الشرط على مقابله لأن " فإن تولوا " يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان .
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطبوا هم به اعتمادا على قرينة حرف التفريع فقيل له فإن تولوا فقل حسبي الله . والتقدير : فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله .
فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم .
والتولي : الإعراض والإدبار : وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد .
[ ص: 74 ] والحسب : الكافي ، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق . وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى .
ومعنى الأمر بأن يقول حسبي الله أن يقول ذلك قولا ناشئا عن عقد القلب عليه ، أي فاعلم أن حسبك الله وقل حسبي الله ; لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به ، ولأن في هذا القول إبلاغا للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم .
والتوكل : التفويض . وهو مبالغة في وكل .
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعينها ولم يؤمر بمجرد التوكل كما أمر في قوله : فتوكل على الله إنك على الحق المبين .
ولا أخبر بأن الله حسبه مجرد إخبار كما في قوله : فإن حسبك الله .
وجملة لا إله إلا هو مستأنفة للثناء ، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية .
وعطفت عليها جملة وهو رب العرش العظيم للثناء بعظيم القدرة لأن من كان ربا للعرش العظيم ثبت أنه قدير ; لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات ، ولذلك وصف بالعظيم ، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش ، فهو مجرور .
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذار للناس ، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه ; لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان .
وفيهما أيضا إيماء إلى اقتراب أجل النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأن التذكير بقوله : لقد جاءكم يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي ; لأن لكل وارد قفولا ، ولكل طالع أفولا . وقد روي عن أبي بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهدا بالله عز وجل ، أي آخر ما نزل من القرآن . [ ص: 75 ] وقيل : إن آخر القرآن نزولا آية الكلالة خاتمة سورة النساء . وقيل آخره نزولا قوله : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون من سورة البقرة .
في صحيح من طريق البخاري شعيب عن عن الزهري ابن السباق عن في حديث جمع القرآن في زمن زيد بن ثابت قال أبي بكر رضي الله عنه زيد : " حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع لم أجدهما مع أحد غيره خزيمة الأنصاري لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم " إلى آخرهما . ومن طريق إبراهيم بن سعد عن مع الزهري أبي خزيمة الأنصاري . ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما ( فإن زيدا اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبيء - صلى الله عليه وسلم - وبقراءة حفاظ القرآن غيره ) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما . فلما أملاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكر زيد لفظهما وتذكرهما من سمعهما من الصحابة حين قرءوهما ، كيف وقد قال : إنهما آخر ما أنزل ، فلفظهما ثابت بالإجماع ، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصرا على إخبار أبي بن كعب خزيمة أو أبي خزيمة .