قيل هذا الخطاب التفات ، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين ، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة ، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأن آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ، وأن يحق عليهم الخسران .
[ ص: 257 ] فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دل عليه ضمير الخطاب ، تقديره : أنتم كالذين من قبلكم ، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدر ، أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، فهو في موضع المفعول المطلق الدال على فعله ، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب :
حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوبا ولا طالبا
أراد : لم أر كاليوم ، إلا أن عامل النصب مختلف بين الآية والبيت .
وقيل هذا من بقية المقول المأمور بأن يبلغه النبيء - صلى الله عليه وسلم - إياهم من قوله : قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون الآية . فيكون ما بينهما اعتراضا بقوله : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار .
والإتيان بالموصول لأنه أشمل وأجمع للأمم التي تقدمت مثل عاد وثمود ممن ضرب العرب بهم المثل في القوة .
و " أشد " معناه أقوى ، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله : أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة أو يراد بها العزة وعدة الغلب باستكمال العدد والعدد ، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز الـ ( أشد ) كما أوقعت مضافا إليه ( شديد ) في قوله - تعالى : علمه شديد القوى
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة : منها طيب الأرض للزرع والغرس ورعي الأنعام والنحل ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم ، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر ، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات ، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت .
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس ، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان ، ومن حسن المناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة ، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع .
[ ص: 258 ] والاستمتاع : التمتع ، وهو نوال أحد المتاع الذي به التذاذ الإنسان وملائمه ، وتقدم عند قوله - تعالى : ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين في سورة الأعراف .
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتع .
والخلاق : الحظ من الخير وقد تقدم عند قوله - تعالى : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق في سورة البقرة .
وتفرع فاستمتعوا بخلاقهم على كانوا أشد : لأن المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي .
وتفرع فاستمتعتم بخلاقكم على ما أفاده حرف الكاف بقوله : كالذين من قبلكم من معنى التشبيه ، ولذلك لم تعطف جملة فاستمتعتم بواو العطف ، فإن هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرع عليه ، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة فاستمتعوا بخلاقهم لولا قصد الموعظة بالفريقين : المشبه بهم ، والمشبهين ، في إعراض كليهما عن أخذ العدة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين ، قصدا للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الإطناب ولو اقتصر على قوله : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ولم يذكر قبله فاستمتعوا بخلاقهم لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين .
ولذلك لما تقرر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله : وخضتم كالذي خاضوا
وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم تأكيد للتشبيه الواقع في قوله : كالذين من قبلكم إلى قوله فاستمتعتم بخلاقكم للتنبيه على أن ذلك الجزء بخصوصه ، من بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، هو محل الموعظة والتذكير ، فلا يغرهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج ، فقدم قوله : فاستمتعوا بخلاقهم وأتى بقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مؤكدا له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير ، ليتأتى التأكيد ، ولأن تقديم ما يتمم تصوير الحالة المشبه بها المركبة ، قبل إيقاع التشبيه ، أشد تمكينا لمعنى المشابهة عند السامع .
[ ص: 259 ] وقوله : كالذي خاضوا تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك ، وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله : ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له . أي : وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك ، فأنتم وهم سواء ، فيوشك أن يحيق بكم ما حاق بهم ، وكلامنا في هذين التشبيهين أدق ما كتب فيهما .
والذي اسم موصول ، مفرد ، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعين أن يكون المراد بـ ( الذي ) : تأويله بالفريق أو الجمع ، ويجوز أن يكون الذي هنا أصله الذين فخفف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن رميلة النهشلي :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصا بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية ، ونحاة الكوفة يجوزونه ولو لم تطل الصلة ، كما في الآية ، وقد ادعى الفراء : أن " الذي " يكون موصولا حرفيا مؤولا بالمصدر ، واستشهد له بهذه الآية ، وهو ضعيف .
ولما وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم ، فقال - تعالى : أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون وفيه تعريض بأن الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحل بهم ما حل بأولئك ، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم .
والخوض تقدمت الحوالة على معرفته آنفا .
والحبط : الزوال والبطلان ، وتقدم في قوله - تعالى : فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة في سورة البقرة .
والمراد بأعمالهم ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه : من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما ، ومعنى حبطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب [ ص: 260 ] بأولئك الأمم ، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم ، كقوله - تعالى : ونرثه ما يقول أي في الدنيا ويأتينا فردا أي في الآخرة لا مال له ولا ولد ، كقوله : ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه
وفي هذا كله تذكرة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأن لا يظنوا أن الله لما أمهل المنافقين قد عفا عنهم .
ولما كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلا خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله : وأولئك هم الخاسرون قصرا مقصودا به المبالغة .
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع .