لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
لما كان قولهم إنما كنا نخوض ونلعب اعتذارا عن مناجاتهم ، أي إظهارا للعذر الذي تناجوا من أجله ، وأنه ما يحتاجه المتعب : من الارتياح إلى المزح والحديث في غير الجد ، فلما كشف الله أمر استهزائهم ، أردفه بإظهار قلة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبسوا بما هو أشنع وأكبر مما اعتذروا عنه ، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان . فإن الله لما أظهر نفاقهم كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة لا تعتذروا من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله ، وهي ارتقاء في توبيخهم ، فهي متضمنة توكيدا لمضمون جملة أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنهم تلبسوا بما هو أشد وهو الكفر ، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها ، على أن شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن [ ص: 252 ] تقطع ولا تعطف لأن التوبيخ يقتضي التعداد ، فتقع الجمل الموبخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد ، اثنان ، فالمعنى لا حاجة بكم للاعتذار عن التناجي فإنكم قد عرفتم بما هو أعظم وأشنع .
والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى .
وجملة قد كفرتم بعد إيمانكم في موضع العلة من جملة لا تعتذروا تعليلا للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى .
وقوله : قد كفرتم يدل على وقوع الكفر في الماضي ، أي قبل الاستهزاء ، وذلك أنه قد عرف كفرهم من قبل . والمراد بإسناد الإيمان إليهم : إظهار الإيمان ، وإلا فهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا . والمراد بإيمانهم : إظهارهم الإيمان ، لا وقوع حقيقته . وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة ، أي بعد إيمان هو من شأنكم ، وهذا تعريض بأنه الإيمان الصوري غير الحق ونظيره قوله - تعالى - الآتي وكفروا بعد إسلامهم وهذا من لطائف القرآن .