فقوله في السبت يجوز أن تكون في للظرفية . والسبت مصدر سبت اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه . والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت . ويجوز أن تكون في للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل . ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب .
ويجوز أن تكون في ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت .
وقوله فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين كونوا أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين ، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين . والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين . والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر ليس قول مجاهد ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية ، وليس الآية صريحة في المسخ . ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات .
[ ص: 545 ] ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا - أو كادوا - على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صحيح ابن مسعود مسلم أنه قال وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله :
قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا
حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر أي لعموم آية المأكولات ، وصحح صاحب التوضيح عن ابن الحاجب مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر صحيحه عن أبي هريرة بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته اهـ . أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال فقدت أمة منوقد تأوله ابن عطية وابن رشد في البيان وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث قلت : يؤيد هذا أنه قاله عن اجتهاد قوله ولا أراها . ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها . ابن مسعود ،
وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترءوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى ، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبيء لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله ، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه [ ص: 546 ] محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك ، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص .
وقوله فجعلناها نكالا عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله فقلنا لهم كونوا قردة . والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ، ويردع غيره عن ارتكاب مثلها ، وهو مشتق من نكل إذا امتنع . ويقال نكل به تنكيلا ونكالا بمعنى عاقبه بما يمنعه من العود .
والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة . والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر .