شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله .
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين ، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل ، وهو مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ولما اتصل بتلك الآية من بيان النبيء - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسل به مع : أبي بكر الصديق . وهو توطئة لقوله : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
وتركيب ما كان لهم أن يفعلوا يدل على أنهم بعداء من ذلك ، كما تقدم عند قوله - تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة في سورة آل عمران ، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات .
[ ص: 140 ] و مساجد الله مواضع عبادته بالسجود والركوع : المراد المسجد الحرام وما يتبعه من المسعى ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، والجمرات ، والمنحر من منى .
وعمر المساجد : العبادة فيها لأنها إنما وضعت للعبادة ، فعمرها بمن يحل فيها من المتعبدين ، ومن ذلك اشتقت العمرة ، والمعنى : ما يحق للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله . وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين : إيماء إلى أن الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله .
وقد جاء الحال في قوله : شاهدين على أنفسهم بالكفر مبينا لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله ، وهو حال من ضمير يعمروا فبين عامل الضمير وهو يعمروا الداخل في حكم الانتفاء ، أي : انتفى تأهلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله ، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده .
والمراد بالكفر : الكفر بالله ، أي بوحدانيته ، فالكفر مرادف للشرك ، فالكفر في حد ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابه مساجد الله ; لأنها مساجد الله فلا حق لغير الله فيها ، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره ، وأقام إبراهيم - عليه السلام - أول مسجد وهو الكعبة عنوانا على التوحيد ، وإعلانا به ، كما تقدم في قوله - تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا في سورة آل عمران ، فهذه أول درجة من الحرمان . ثم كون كفرهم حاصلا باعترافهم به موجب لانتفاء أقل حظ من هذه العمارة ، وللبراءة من استحقاقها ، وهذه درجة ثانية من الحرمان .
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم ، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك ، مثل قولهم في التلبية " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " ، ومثل سجودهم للأصنام ، وطوافهم بها ، ووضعهم إياها في جوف الكعبة وحولها وعلى سطحها .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإفراد " مسجد الله " ، أي المسجد الحرام وهو المقصود ، أو التعريف بالإضافة للجنس . وقرأ الباقون : مساجد الله ، فيعم المسجد الحرام وما عددناه معه آنفا .
[ ص: 141 ] وجملة أولئك حبطت أعمالهم ابتداء ذم لهم ، وجيء باسم الإشارة لأنهم قد تميزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله : أولئك على هدى من ربهم بعد قوله : هدى للمتقين الآية .
وحبطت بطلت ، وقد تقدم في قوله - تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة في سورة البقرة .
وتقديم في النار على خالدون للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه .