[ ص: 125 ] اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم ، في صد استقلاله بالأخبار . وهذه الآية وصف القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة : من الاشتراء بآيات الله ثمنا قليلا ، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آية أخرى نزلت بعدها لأن نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتى دخلوا في دين الله أفواجا ، سنة الوفود وما بعدها ، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقوا على الشرك من العرب ، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب ، ليس لهم امتراء في صحة الإسلام ونهوض حجته ، ولكنهم بقوا على الشرك لمنافع يجتنونها من عوائد قومهم : من غارات يشنها بعضهم على بعض ، ومحبة الأحوال الجاهلية من خمر وميسر وزنى ، وغير ذلك من المذمات واللذات الفاسدة ، وذلك شيء قليل آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة . فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مثل مال بأيديهم ، وفرطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة ، فلذلك مثل حالهم بحال من اشترى شيئا بشيء ، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة .
والمراد بالآيات : الدلائل ، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام ، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز . والباء في قوله : بآيات الله باء التعويض . وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوض يملكه غيره ، فجعلت آيات الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتباع هواهم .
والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولا لا مقتنى جار على طريق الاستعارة تشبيها لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصل من فعل " اشتروا " ومن لفظ " ثمنا " استعارتان باعتبارين .
[ ص: 126 ] وجملة فصدوا عن سبيله مفرعة على جملة اشتروا بآيات الله لأن إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبب عليه أن يصدوا الناس عن اتباع الإسلام ، فمثل حالهم بحال من يصد الناس عن السير في طريق تبلغ إلى المقصود .
ومفعول " صدوا " محذوف لقصد العموم ، أي : صدوا كل قاصد .
وجملة إنهم ساء ما كانوا يعملون . ابتدائية أيضا ، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالأخبار ، وأنها لا ينبغي أن تعطف في الكلام ، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها .
وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم .
و " ساء " من أفعال الذم ، من باب " بئس " ، و ما كانوا يعملون مخصوص بالذم ، وعبر عن عملهم بـ كانوا يعملون للإشارة إلى أنه دأب لهم ومتكرر منهم .