ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .
جملة " ولا تكونوا " معطوفة على " ولا تنازعوا " عطف نهي على نهي . ويصح أن تكون معطوفة على جملة " فاثبتوا " عطف نهي على أمر ، إكمالا لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء : بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر ، وأن يتجنبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد .
وجيء في نهيهم عن البطر والرئاء بطريقة النهي عن التشبه بالمشركين : إدماجا للتشنيع بالمشركين وأحوالهم ، وتكريها للمسلمين تلك الأحوال ; لأن الأحوال الذميمة تتضح مذمتها ، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين [ ص: 33 ] عند آخرين ، وذلك أبلغ في النهي ، وأكشف لقبح المنهي عنه . ونظيره قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقد تقدم آنفا . فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبدر إذ خرجوا بطرا ورئاء الناس ; لأن حق كل مسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله ، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية .
والموصول مراد به جماعة خاصة ، وهم أبو جهل وأصحابه ، وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر ، فإنهم خرجوا من مكة بقصد حماية عيرهم فلما بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان ، وهو كبير العير يخبرهم أن العير قد سلمت ، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نقدم بدرا نشرب بها وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب حتى يتسامع العرب بأننا غلبنا محمدا وأصحابه . فعبر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر ، بالخروج لأنه تكملة لخروجهم من مكة .
وانتصب بطرا ورئاء الناس على الحالية ، أي بطرين مرائين ، ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكن الصفتين منهم لأن البطر والرياء خلقان من خلقهم .
و ( البطر ) إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة ، والاستكبار والفخر بها ، فالمشركون لما خرجوا من الجحفة ، خرجوا عجبا بما هم فيه من القوة والجدة .
و ( الرئاء ) بهمزتين أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة . ووزنه " فعال " مصدر " راءى " ( فاعل ) من الرؤية ويقال : مراآة ، وصيغة المفاعلة فيه مبالغة أي بالغ في إراءة الناس عمله محبة أن يروه ليفخر عليهم .
و سبيل الله الطريق الموصلة إليه ، وهو الإسلام ، شبه الدين في إبلاغه إلى رضا الله تعالى ، بالسبيل الموصل إلى بيت سيد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه .
وجيء في " يصدون " بصيغة الفعل المضارع : للدلالة على حدوث وتجدد صدهم الناس عن سبيل الله ، وأنهم حين خرجوا صادين عن سبيل الله ومكررين ذلك ومجددينه . وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة ، وأما التجدد فمستفاد من المضارعية ولا يجعل الحال مقدرة .
[ ص: 34 ] وقوله : والله بما يعملون محيط تذكير للمسلمين بصريحه ، ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي ; لأن إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى ، ويلزمه أنه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليم القدير من اعتدى على حرمه ، والجملة حال من ضمير الذين خرجوا
وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى : مجاز عقلي ; لأن المحيط هو علم الله - تعالى - فإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز .