[ ص: 128 ] ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( 89 ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( 90 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) جحودا . قوله عز وجل : ( وقالوا لن نؤمن لك ) لن نصدقك ( حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب " تفجر " بفتح التاء وضم الجيم مخففا لأن الينبوع واحد وقرأ الباقون بالتشديد من التفجير واتفقوا على تشديد قوله : ( فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) لأن الأنهار جمع والتشديد يدل على التكثير ولقوله " تفجيرا " من بعد .
وروى عكرمة عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن : الرئي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . [ ص: 129 ]
فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادا ولا أشد منا عيشا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال فقد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه أصبر لأمر الله .
قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك ، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه .
فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا .
قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل .
فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم فعله .
وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا .
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته فقال : يا عاتكة بنت عبد المطلب محمد عرض عليك قومك ما عرضوا عليك فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيها وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ) يعني : أرض مكة ( ينبوعا ) أي : عيونا .