القول في تأويل قوله تعالى : ( حم ( 1 ) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( 2 ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ( 3 ) )
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( حم ) فقال بعضهم : هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم ، وهو الحاء والميم منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي قال : ثنا علي بن الحسن قال : ثني أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة .
وقال آخرون : هو قسم أقسمه الله ، وهواسم من أسماء الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : ( حم ) : قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن قوله ( حم ) : من حروف أسماء الله . السدي
وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء القرآن .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( حم ) قال [ ص: 348 ] : اسم من أسماء القرآن . وقال آخرون : هو حروف هجاء .
وقال آخرون : بل هو اسم ، واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفى العبسي :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم
ويقول الكميت :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب
وحدثت عن أنه قال : قال معمر بن المثنى يونس - يعني - الجرمي : ومن قال هذا القول فهو منكر عليه ؛ لأن السورة ( حم ) ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج التهجي ، وهذه أسماء سور خرجت متحركات ، وإذا سميت سورة بشيء [ ص: 349 ] من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب .
والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها ، وقد بينا ذلك في قوله : ( الم ) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في حم ، وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه - أعني حروف التهجي - قولا واحدا .
وقوله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ) يقول الله - تعالى ذكره - : من الله العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم بما يعملون من الأعمال وغيرها تنزيل هذا الكتاب . فالتنزيل مرفوع بقوله : ( من الله ) .
وفي قوله : ( غافر الذنب ) وجهان : أحدهما أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد ، وإذا أريد هذا المعنى كان خفض " غافر " و " قابل " من وجهين ، أحدهما من نية تكرير " من " فيكون معنى الكلام حينئذ : تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، من غافر الذنب ، وقابل التوب ؛ لأن غافر الذنب نكرة ، وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة ، وهو نكرة . والآخر أن يكون أجرى في إعرابه - وهو نكرة - على إعراب الأول كالنعت له ؛ لوقوعه بينه وبين قوله : ( ذي الطول ) وهو معرفة . وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه - وهو نكرة - إعراب الأول ، إذ كان مدحا ، وكان المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا ، ويعدل به عن إعراب الأول أحيانا بالنصب والرفع كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبين معاقد الأزر
[ ص: 350 ] وكما قال - جل ثناؤه - ( وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد ) فرفع " فعال " وهو نكرة محضة ، وأتبع إعراب الغفور الودود . والآخر : أن يكون معناه : أن ذلك من صفته تعالى ، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها ، ومن بعد ذلك ، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة . وقال : ( غافر الذنب ) ولم يقل الذنوب ؛ لأنه أريد به الفعل ، وأما قوله : ( وقابل التوب ) فإن التوب قد يكون جمع توبة ، كما يجمع الدومة دوما والعومة عوما من عومة السفينة ، كما قال الشاعر :
عوم السفين فلما حال دونهم
وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا .
وقد حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : جاء رجل إلى عمر فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ قال : نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ : ( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب ) .
وقوله : ( شديد العقاب ) يقول - تعالى ذكره - : شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له ، فلا تتكلوا على سعة رحمته ، ولكن كونوا منه على حذر ، باجتناب معاصيه ، وأداء فرائضه ، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه ، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه ، كذلك لا يؤمنهم من عقابه [ ص: 351 ] وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه ، وركبوا من معاصيه .
وقوله : ( ذي الطول ) يقول : ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه . يقال منه : إن فلانا لذو طول على أصحابه ، إذا كان ذا فضل عليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ذي الطول ) يقول : ذي السعة والغنى .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله ( ذي الطول ) الغنى .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ذي الطول ) : أي ذي النعم .
وقال بعضهم : الطول : القدرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد فى قوله ( ذي الطول ) قال : الطول القدرة ، ذاك الطول .
وقوله : ( لا إله إلا هو إليه المصير ) يقول : لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم ، الذي صفته ما وصف - جل ثناؤه - فلا تعبدوا شيئا سواه ( إليه المصير ) يقول - تعالى ذكره - : إلى الله مصيركم ومرجعكم - أيها الناس - فإياه فاعبدوا ، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه .