بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف :
الصنف الأول فرق . أهل العلم والمغترون ، منهم
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية ، وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح ، وحفظها عن المعاصي ، وإلزامها الطاعات واغتروا بعلمهم ، وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم ، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم ، لكرامتهم على الله وهم مغرورون ; فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان : علم معاملة ، وعلم مكاشفة ، وهو العلم بالله وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة .
فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الحلال والحرام ، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة ، وكيفية علاجها ، والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وكل علم يراد للعمل ، فلا قيمة له دون العمل .
فمثال هذا كمريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ، ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها ، وكيفية خلطه وعجنه ، فتعلم ذلك ، وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن ورجع إلى بيته ، وهو يكررها ، ويعلمها المرضى ، ولم يشتغل بشربها واستعمالها ، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا ، هيهات هيهات لو كتب منه ألف نسخة ، وعلمه ألف مريض حتى شفي جميعهم ، وكرره كل ليلة ألف مرة ، لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلا أن يزن الذهب ويشتري الدواء ، ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ، ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلا ? فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره .
وهكذا الفقيه الذي فهو مغرور ، إذ قال تعالى : أحكم علم الطاعات ولم يعملها ، وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها ، وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها قد أفلح من زكاها ولم يقل : قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها ، وكتب علم ذلك ، وعلمه الناس ، وعند هذا يقول له الشيطان : لا يغرنك هذا المثال ، فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض ، وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه ، والعلم يجلب الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم .
فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن ، إليه ، وأهمل العمل وإن كان كيسا فيقول للشيطان : أتذكرني فضائل العالم ، وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى : فمثله كمثل الكلب وكقوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار وقد قال صلى الله عليه وسلم : « من ازداد علما ولم يزدد هدى ، لم يزدد من الله إلا بعدا » . .
وقال أيضا « يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحى » وكقوله صلى الله عليه وسلم « شر الناس العلماء السوء » . .
وقول ويل للذي لا يعلم مرة ، ولو شاء الله لعلمه ، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه ; إذ يقال له : ماذا عملت فيما علمت ? وكيف قضيت شكر الله . أبي الدرداء
? وقال صلى الله عليه وسلم : « أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه » . .
فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب : علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى ، إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه ، فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه ، وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه ، وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء وأن ، حالهم عند الله أشد من حال الجهال .
فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور .
وأما الذي يدعي علوم المكاشفة كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه ، وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده ، فغروره أشد ، ومثاله مثال : من أراد خدمة ملك فعرف الملك ، وعرف أخلاقه وأوصافه ، ولونه ، وشكله ، وطوله ، وعرضه ، وعادته ، ومجلسه ، ولم يتعرف ما يحبه ، ويكرهه ، وما يغضب عليه ، وما يرضى به ، أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته ، وهو ملابس لجميع ما يغضب به عليه ، وعاطل عن جميع ما يحبه من زي ، وهيئة ، وكلام ، وحركة ، وسكون فورد على الملك وهو يريد التقرب منه ، والاختصاص به متلطخا بجميع ما يكرهه الملك عاطلا عن جميع ما يحبه متوسلا إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده ، وصورته وشكله ، وعادته في سياسة غلمانه ، ومعاملة رعيته .
فهذا مغرور جدا ، إذ لو ترك جميع ما عرفه ، واشتغل بمعرفته فقط ، ومعرفة ما يكرهه ويحبه ، لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربه ، والاختصاص به ، بل تقصيره في التقوى ، واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني ، إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه .
فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ، ثم لا يتقيه ، ولا يخافه ، وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : خفني كما تخاف السبع الضاري .
نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه ، قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد ، فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ، ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافا مؤلفة ، وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا ، ولم تأخذه عليه رقة ، ولا اعتراه عليه جزع .
ولذلك ، قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وفاتحة الزبور : رأس الحكمة خشية الله وقال كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار بالله جهلا . ابن مسعود
واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له : إن فقهاءنا لا يقولون ذلك ، فقال : وهل رأيت فقيها قط ؟! الفقيه القائم ليله ، الصائم نهاره ، الزاهد في الدنيا .
وقال مرة : الفقيه لا يداري ، ولا يماري ينشر حكمة الله ، فإن قبلت منه حمد الله ، وإن ردت عليه حمد الله .
فإذا الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه ، وعلم من صفاته ما أحبه ، وما كرهه وهو العالم ومن وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين . « يرد الله به خيرا يفقهه في الدين »