المطلب الثاني: حكمها بعد وقوعها
على قولين: اختلف القائلون بمنع الوصية لوارث في حكمها إذا وقعت
القول الأول: أنها صحيحة موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها جازت، وإن ردوها ردت، وإن أجاز بعضهم دون بعض، فمن أجاز لزمته نصيبه فقط، ومن رد فلا شيء عليه.
وبه قال جمهور الفقهاء.
القول الثاني: الوصية باطلة، وليس للورثة إجازتها; لوقوعها باطلة، والباطل لا يقبل الإجازة.
وهو قول بعض المالكية ، وبعض الشافعية ، وهو قول الظاهرية .
قال : "ولا تحل الوصية لوارث أصلا، فإن أوصى لغير وارث فصار وارثا عند موت الموصي: بطلت الوصية له، فإن أوصى لوارث ثم صار غير وارث لم تجز له الوصية، لأنها إذ عقدها كانت باطلا، وسواء جوز الورثة ذلك أو لم يجوزوا". ابن حزم
[ ص: 516 ] وسبب الخلاف شيئان:
الأول: اختلاف الروايات، كما سيأتي.
الثاني: الخلاف في علة النهي عن الوصية لوارث، هل هو لحق الورثة أو لحق الله؟ فمن رأى أنه لحق الورثة قال: الوصية صحيحة موقوفة على إجازتهم، فإذا أجازوها جازت; لأن الحق لهم وقد أسقطوه، ومن قال بأن المنع تعبد لحق الله قال ببطلانها، وإن أجازها الورثة; لأن الحق لله، فلا يسقط بإسقاط أحد.
الأدلة:
أدلة الجمهور، استدل الجمهور بما يلي:
1 - حديث رضي الله عنه ...وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: أبي أمامة . "لا وصية لوارث"
2 - حديث رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس . "إلا أن يجيز الورثة"
فحديث: يقتضي بطلانها، أجازها الورثة أم لا; لأنه عام في جميع الوصايا وجميع الأحوال، في حين حديث "لا وصية لوارث" يقتضي صحتها إذا أجازها الورثة؛ لقوله: ابن عباس ، والاستثناء من النفي إثبات، فتكون الوصية لوارث مع الإجازة صحيحة. "إلا أن يشاء الورثة"
فقوله: خاص، وحديث: "إلا أن يشاء الورثة" عام، والخاص مقدم على العام. "لا وصية لوارث"
3 - ما ورد رضي الله عنه أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟، قال: "لا"، قال: [ ص: 517 ] قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث، قال: "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" سعد بن أبي وقاص . عن
وجه الدلالة: أن المنع من الزيادة على الثلث من أجل الورثة; لقوله صلى الله عليه وسلم: . " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"
وأيضا: فإن كلمة "إن" نص ظاهر في التعليل، كما أنه ظاهر في أن المقصود بالورثة الورثة الخاصة غير بيت المال، ألا ترى إلى قول سعد : "لا يرثني إلا ابنة لي" وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ورثتك" بالإضافة للمخاطب، وإلى قوله: "يتكففون الناس"، فإن ذلك كله يدل على أن المقصود بالورثة غير بيت المال، وأن بيت المال غير وارث; لأن بيت المال لا يتكفف.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" توجيه النظر إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم من أن الثلث كثير، وأنه ينبغي للشخص أن يراعي حال ورثته، فإذا كانت حالهم تدعو إلى النقص عن الثلث لفقرهم نقص، بل إن كانت حالهم تدعو ترك المال جميعه فعل; لأن إغناءهم عند فقرهم خير من الإيصاء.
الثاني: أنه لو سلم أن ما ذكر في حديث سعد رضي الله عنه هو علة النهي لكان للموصي أن يوصي بجميع ماله مع غنى الورثة، وأن يمنع من الوصية إذا كانوا فقراء، وهذا لم يقل به أحد.
4 - ما رواه من حديث البخاري رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: "لا"، فقال: فأرجعه " النعمان بن بشير .
[ ص: 518 ] وجه الدلالة: أن الشارع منع من فكذا في الوصية بعد الممات; لما في ذلك من إيقاع العداوة والبغضاء. التفاضل في الهبة بين الأولاد حال الحياة،
5 - ما رواه من طريق مسلم أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن رضي الله عنه: عمران بن حصين . "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا"
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن له في التبرع بأكثر من الثلث لأجل الورثة.
(188) 6 - ما رواه من طريق عبد الرزاق ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه أنه قال لبعض أهل ابن مسعود الكوفة : "إنكم من أحرى بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما، فلا يمنعه إذا كان كذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين" .
[ ص: 519 ] وجه الدلالة: أن رضي الله عنه يرى المنع لحق الوارث، فإذا لم يكن له وارث كان له الحق في أن يوصي ولو بماله كله في وجوه البر والخير. ابن مسعود
(189) 7 - وروي عن رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عمرو بن العاص عبد الله : "إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله : فقلت له: ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم" .
[ ص: 520 ] 8 - أنها تصرف صدر من أهله في محله، كما لو أوصى لأجنبي فصحت.
9 - أن المنع كان لحق الورثة لما يلحقهم من الأذى والضرر بإيثار بعضهم على بعض، فلا تصح بدون إجازتهم، وتصح مع الإجازة; لأنهم أسقطوا حقهم برضاهم فزال المانع.
10 - أنه لا حق لأحد فيه، فلصاحبه أن يضعه حيث شاء، وإذا كان للإمام أن يضعه بعد موته حيث شاء، فكذلك لصاحبه من باب أولى، لكن لا بد من إجازة الورثة كما سبق.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق; إذ الإمام قد أذن له في التصرف، وأما الميت فلم يأذن الله له إلا في الثلث فأقل لغير وارث.
11 - أن حق الورثة تعلق بماله لانعقاد سبب الزوال إليهم، وهو استغناؤه عن المال، إلا أن الشرع لم يظهر في حق الأجانب بقدر الثلث ليتدارك تقصيره، وأظهره في حق الورثة; لأن الظاهر أنه لا يتصدق عليهم تحرزا عما قد يقع لهم من العداوة والبغضاء فيما بينهم بسبب إيثار بعضهم بالوصية له.
[ ص: 521 ] أدلة القول الثاني:
1 - حديث رضي الله عنه: أبي أمامة فإن نفي الجواز يدل على التحريم، والتحريم يدل على الفساد. "لا وصية لوارث"
والاحتمال الموجود في الحديث: ظاهره نفي وجود الوصية للوارث، وعدم وقوعها في الخارج، وهذا الظاهر غير مراد، فيجب تقدير محذوف في الكلام لتوقف الصدق عليه، وهو متردد بين الصحة واللزوم، فيحتمل لا وصية صحيحة، ويحتمل لا وصية لازمة، والحديث وإن كان مترددا بين مجازين، نفي الصحة ونفي اللزوم، إلا أن نفي الصحة أقرب لنفي الذات من نفي اللزوم، وحمل اللفظ على المجاز القريب أولى من حمله على المجاز البعيد. (لا وصية لوارث)
ومن قدر الثاني قال: هو نفي لنفوذها ولزومها، وذلك لا ينافي صحتها، فهي صحيحة غير لازمة لانعقادها ممن له أهلية عقدها.
(190) 2 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم ، عن القاسم بن محمد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عائشة . "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"
(191) 3 - ما رواه من طريق ابن أبي شيبة حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال: "ليس لوارث وصية" .
4 - أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدنا الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله ورسوله.
[ ص: 522 ] ونوقش: بأنه غير مسلم، فلا يسلم من أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدي; إذ أن أحكام المعاملات شرعها الله لمصالح ومقاصد تعود بالخير والنفع على العباد.
سبب الخلاف: هو اختلافهم في العلة التي من أجلها منعت الوصية للوارث، هل هي كونه وارثا؟ أو أن المنع تعبدي ؟.
والراجح - والله أعلم -: هو القول الأول; وذلك لأن المنع من الزيادة عن الثلث لأجنبي، والمنع من الوصية بشيء للوارث إنما هو لأجل حق الورثة، فإذا رضي الورثة بذلك فقد رضوا بإسقاط حقهم; لقوة ما استدلوا به، ولأن هذا هو فهم السلف، كما تقدم عن رضي الله عنه، ولما روى ابن مسعود عن ابن سيرين عبيدة السليمان قال: "إذا مات الشخص وليس عليه عقد ولا حد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء" والله تعالى أعلم.