[ ص: 18 ] المبحث الثالث: صورها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول
الصورة الأولى: أن تكون العمرى بلفظ مطلق -دون ما يشعر بالتأبيد- كأن يقول: أعمرتك هذه الدار، أو يقول: داري لك عمرى، ونحو ذلك، فتصح، لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- في العمرى هل هي تمليك للمنافع والذات معا، أم هي تمليك للمنافع فقط؟.
بعد أن اتفق الأئمة الأربعة على جواز وترجع بعد إلى صاحبها المعمر بعد موت المعمر على ثلاثة أقوال: العمرى، اختلفوا فيها من ناحية هل هي تمليك للمنافع والذات معا؟ أو هي تمليك للمنافع فقط؟
القول الأول: أن العمرى هبة للذات، ولا تنصرف إلى المنافع مستقلة عن الذات، بل يملكها المعمر كسائر أمواله، وتورث عنه، ولا ترجع إلى المعمر ولا إلى ورثته مطلقا.
وقال بذلك جمهور الفقهاء: الحنفية ...، [ ص: 19 ] والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- حديث -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جابر "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا، ولعقبه".
2- حديث -رضي الله عنه- قال: جابر "قضى النبي بالعمرى أنها لمن وهبت له".
(232) 3- ما رواه من طريق مسلم أبي سلمة، عن -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: جابر "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".
(233) 4- ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن بشير بن نهيك، -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أبي هريرة "العمرى جائزة".
(234) 5- ما رواه من طريق أبو داود عن عمرو بن دينار، عن طاوس، حجر، عن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زيد بن ثابت [ ص: 20 ] "من أعمر شيئا فهو لمعمره محياه ومماته، ولا ترقبوا، فمن أرقب شيئا فهو سبيله".
وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن العمرى هبة مبتوتة للذات والمنافع، وليست هبة للمنافع مستقلة عن الذات.
(235) 6- ما رواه من طريق ابن أبي شيبة قال: قال مجاهد -رضي الله عنه-: "العمرى والرقبى سواء" علي بن أبي طالب لم يسمع من (مجاهد علي -رضي الله عنه-) .
(236) 7- ما رواه عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن طاوس، -رضي الله عنهما- قال: "من أعمر شيئا فهو له". ابن عباس
(237) 8- وروى من طريق ابن أبي شيبة عن أبي الزبير، عن طاوس، -رضي الله عنهما- قال: "العمرى والرقبى سواء". ابن عباس
(238) 9- ما رواه من طريق عبد الرزاق عن طاوس، حجر المدري، عن -رضي الله عنه- قال: "العمرى للوارث". زيد بن ثابت
القول الثاني: أن العمرى هبة المنافع فقط، والذات باقية على ملك [ ص: 21 ] صاحبها، ويكون للموهوب له السكنى فقط في مثل قوله: أعمرتك هذه الدار حياتك، فإذا مات عادت الدار إلى صاحبها، ولا تنتقل إلى صاحبها، ولا تنتقل إلى ورثة المعمر إلا إذا جعلها له ولعقبه، فإنها حينئذ تكون منفعتها لورثته، وبعد ذلك ترجع إلى صاحبها أو إلى ورثته.
قال بذلك مالك، والليث.
وحجة هذا القول:
1- قال تعالى: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها .
2- قال تعالى: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها .
قالوا في الاستدلال في هاتين الآيتين: فكذلك كل من أعمر عمرى فقد جعل الشيء المملوك له للغير يعمره مدة حياته; تحقيقا لوظيفة الملك في هذه الحياة.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي.
قال إن هذا بعيد من التوفيق في فهم الدليل; وذلك لما يلي: ابن حزم:
أولا: أنهم قاسوا حكم الناس على حكم الله تعالى فيهم، وهذا باطل; لأن الله تعالى يفعل ما يشاء من أقداره الكونية كالموت والمرض والمصائب، ونحو ذلك، فله الإرادة والحكمة التامة النافذة.
ثانيا: ليس المراد من الآية الكريمة العمرى بمعنى إعطاء الغير حق [ ص: 22 ] الانتفاع مدة حياة المعمر، أو المعمر، وإنما المراد بذلك أن الله استعمرنا فيها بمعنى: أنه عمرنا بالبقاء فيها مدة، وليس هذا من العمرى في ورد ولا صدر.
ثالثا: أن هذه الآية لو جعلناها حجة عليهم، لكان ذلك أوضح مما موهوا به، وهو أن الله تعالى - شك- أباح لنا بيع ما ملكنا من الأرض، وجعلها لورثتنا بعدنا، وهذا هو قولنا في العمرى لا قولهم.
3- قال "ومن أحسن ما احتجوا به أن قالوا: ملك المعمر ثابت بإجماع قبل أن يحدث العمرى، فلما أحدثها، اختلف العلماء، فقال بعضهم: قد أزال لفظه ذلك ملكه عن رقبة ما أعمره، وقال بعضهم: لم يزل ملكه عن رقبة ماله بهذا اللفظ، والواجب بحق النظر أن لا يزول ملكه إلا بيقين وهو الإجماع; لأن الاختلاف لا يثبت به يقين، وقد ثبت أن الأعمال بالنيات، وهذا الرجل لم ينو بلفظه إخراج شيء من ملكه، وقد اشترط فيه شرطا، فهو على شرطه; لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ابن عبد البر: "المسلمون على شروطهم".