هذا آخر كلامه، وهو مع طوله مداره على ثلاثة فصول:
أحدها: تضعيف عبد الحميد بن جعفر.
والثاني: تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء.
[ ص: 191 ] والثالث: انقطاع الحديث بين محمد بن عمرو، وبين الصحابة الذين رواه عنهم.
والجواب عن هذه الفصول.
أما الأول: فعبد الحميد بن جعفر قد وثقه في جميع الروايات عنه، ووثقه الإمام يحيى بن معين أيضا، واحتج به أحمد في "صحيحه"، ولم يحفظ عن أحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفه بما يوجب سقوط روايته. فتضعيفه بذلك مردود على قائله. وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته، ما لم يبين سبب ضعفه، وحينئذ ينظر فيه، هل هو قادح أم لا ؟ وهذا إنما يحتاج إليه عند الاختلاف في توثيق الرجل وتضعيفه، وأما مسلم هذا أولى ما يقال في مسألة التضعيف المطلق. إذا اتفق أئمة الحديث على تضعيف رجل لم يحتج إلى ذكر سبب ضعفه،
وأما الفصل الثاني: وهو تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء; ففي غاية الفساد، فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وثقه أئمة الحديث كأحمد، ويحيى بن سعيد، وغيرهم، [ ص: 192 ] واتفق صاحبا الصحيح على الاحتجاج به. ويحيى بن معين
وتضعيف يحيى بن سعيد - إن صح عنه - فهو رواية المشهور عنه خلافها. وحتى لو ثبت على تضعيفه وأقام عليه، ولم يبين سببه لم يلتفت إليه مع توثيق غيره من الأئمة له.
ولو كان كل رجل ضعفه رجل سقط حديثه لذهب عامة الأحاديث الصحيحة من أيدينا، فقل رجل من الثقات إلا وقد تكلم فيه آخر.
وأما قوله: "كان سفيان يحمل عليه"; فإنما كان ذلك من جهة رأيه لا من جهة روايته، وقد رمي جماعة من الأئمة المحتج بروايتهم بالقدر كابن أبي عروبة، وابن أبي ذئب، وغيرهم، وبالإرجاء كطلق بن حبيب، وغيره. وهذا أشهر من أن يذكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردون حديث الثقة بمثل ذلك.
وأما الفصل الثالث: وهو انقطاع الحديث; فغير صحيح، وهو مبني على [ ص: 193 ] ثلاث مقدمات، أحدها: أن وفاة أبي قتادة كانت في خلافة والثاني: أن علي، محمد بن عمرو لم يدرك خلافة والثالث: أنه لم يثبت سماعه من علي، أبي حميد، بل بينهما رجل.
فأما المقام الأول، وهو وفاة أبي قتادة، فقال "أجمع أهل التواريخ على أن البيهقي: أبا قتادة الحارت بن ربعي بقي إلى سنة أربع وخمسين، وقيل: بعدها.
ثم روى من طريق يعقوب بن سفيان قال: قال ابن بكير قال مات الليث: سنة أربع وخمسين. أبو قتادة الحارث بن ربعي بن النعمان الأنصاري
قال: وكذلك قاله فيما أنبأنا الترمذي أبو عبد الله الحافظ، عن أبي حامد المقرئ عنه، وكذلك ذكره في كتابه "معرفة الصحابة". وكذلك ذكره أبو عبد الله ابن منده الحافظ عن الواقدي يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة مات بالمدينة سنة خمس وخمسين، وهو ابن سبعين سنة.
قال: والذي يدل على هذا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي قتادة، وعمرو بن سليم الزرقي، وعبد الله بن رباح الأنصاري رووا عن أبي قتادة، وإنما حملوا العلم بعد أيام فلم يثبت لهم عن أحد ممن توفي في أيام علي سماع. وروينا عن علي، عن معمر، أن عبد الله بن محمد بن عقيل: لما قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة تلقته الأنصار، وتخلف أبو قتادة، [ ص: 194 ] ثم دخل عليه بعد وجرى بينهما ما جرى. ومعلوم أن إنما قدمها حاجا قدمته الأولى في خلافته سنة أربع وأربعين. معاوية
وفي "تاريخ بإسناده عن البخاري" عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن أرسل إلى مروان بن الحكم أبي قتادة وهو على المدينة: أن اغد معي حتى تريني مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانطلق مع حتى قضى حاجته. مروان
ومروان إنما ولي المدينة في أيام ثم نزع عنها سنة ثمان وأربعين، واستعمل عليها معاوية، ثم نزع سعيد بن العاص، سنة أربع وخمسين وأمر عليها سعيد بن العاص مروان.
قال في "سننه": حدثنا النسائي محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا قال: سمعت ابن جريج، نافعا يزعم: أن صلى على تسع جنائز جميعا، فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القبلة، فصفهن صفا واحدا، ووضعت جنازة ابن عمر أم كلثوم ابنة امرأة علي، وابن لها يقال له: عمر بن الخطاب زيد، وضعا جميعا، والإمام يومئذ وفي الناس سعيد بن العاص، ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة، فوضع الغلام مما يلي الإمام، [ ص: 195 ] فقال رجل فأنكرت ذلك فنظرت إلى ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، ، وأبي قتادة فقلت ما هذا قالوا هي السنة.
فتأمل سند هذا الحديث وصحته وشهادة نافع بشهود أبي قتادة هذه الجنازة، والأمير يومئذ وإنما كانت إمرته في خلافة سعيد بن العاص، سنة ثمان وأربعين إلى سنة أربع وخمسين كما قدمناه، وهذا مما لا يشك فيه عوام أهل النقل وخاصتهم. معاوية
فإن قيل فما تصنعون بما رواه موسى بن عبد الله بن يزيد: "أن صلى على عليا أبي قتادة، فكبر عليه سبعا، وكان بدريا". وبما رواه قال: "صلى الشعبي على علي أبي قتادة وكبر عليه ستا".
قلنا: لا تجوز معارضة الأحاديث الصحيحة المعلومة الصحة بروايات التاريخ المنقطعة المغلوطة، وقد خطأ الأئمة رواية موسى هذه ومن تابعه، وقالوا: هي غلط، قاله وغيره. ويدل على أنها غلط وجوه: البيهقي
أحدها: ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة المصرحة بتأخير وفاته وبقاء مدته بعد موت علي.
الثاني: أنه قال "كان بدريا"، وأبو قتادة لا يعرف أنه شهد بدرا، وقد ذكر [ ص: 196 ] عروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، وغيرهم أسامي من شهد بدرا من الصحابة، وليس في شيء منها ذكر ومحمد بن إسحاق، أبي قتادة، فكيف يجوز رد الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها بمثل هذه الرواية الشاذة التي قد علم خطؤها يقينا، إما في قوله: "وصلى عليه علي"، وإما في قوله: "وكان بدريا" !.
وأما رواية الشعبي; فمنقطعة أيضا غير ثابتة، ولعل بعض الرواة غلط من تسمية أو غيره إلى قتادة بن النعمان أبي قتادة، فإن بدري، وهو قديم الموت. قتادة بن النعمان
وأما المقام الثاني: وهو أن محمد بن عمرو لم يدرك خلافة علي; فقد تبين أن أبا قتادة تأخر عن خلافة علي.
وأما المقام الثالث: وهو أن محمد بن عمرو لم يثبت سماعه من أبي حميد بل بينهما رجل; فباطل أيضا.
قال في "جامعه": "حدثنا الترمذي محمد بن بشار والحسن بن علي الخلال وغير واحد قالوا: حدثنا وسلمة بن شبيب، أبو عاصم، حدثنا حدثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: سمعت محمد بن عمرو بن عطاء، في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبا [ ص: 197 ] حميد الساعدي " فذكره . أبو قتادة بن ربعي
وقال في "سننه": "حدثنا سعيد بن منصور هشيم، حدثنا عن عبد الحميد بن جعفر، محمد بن عمرو بن عطاء القرشي، قال: رأيت مع عشرة رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أحدثكم" فذكره. أبا حميد الساعدي
وقال في "التاريخ الكبير": البخاري محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة العامري القرشي المدني، سمع أبا حميد الساعدي، وأبا قتادة، روى عنه وابن عباس، عبد الحميد بن جعفر، وموسى بن عقبة، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، والزهري".
توفي قبل الستين في خلافة وأبو حميد معاوية، وأبو قتادة توفي بعد الخمسين كما ذكرنا، فكيف ننكر لقاء محمد لهما، وسماعه منهما؟
ثم ولو سلمنا أن أبا قتادة توفي في خلافة فمن أين يمتنع أن يكون علي، محمد بن عمرو في ذلك الوقت رجلا؟ ولو امتنع أن يكون رجلا لتقاصر [ ص: 198 ] سنه عن ذلك لم يمتنع أن يكون صبيا مميزا، وقد شاهد هذه القصة في صغره ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقا، وهو أسوة أمثاله في ذلك. فرد الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة مما يرغب عن مثله أئمة العلم، والله الموفق.
وأما إدخال من أدخل بين وبين محمد بن عمرو بن عطاء، رجلا، فإن ذلك لا يضر الحديث شيئا، فإن الذي فعل ذلك رجلان: أبي حميد الساعدي عطاف بن خالد، وعيسى بن عبد الله; فأما عطاف فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يعارض به الثقات الأثبات، قال ليس هو من جمال المحامل. وقد تابع مالك: على روايته عبد الحميد بن جعفر محمد بن عمرو بن حلحلة، كلاهما قال: عن عن محمد بن عمرو بن عطاء، أبي حميد، ولا يقاوم عطاف بن خالد بهذين حتى تقدم رواية على روايتهما.
وقوله: "لم يصرح محمد بن عمرو بن حلحلة في حديثه بسماع ابن عطاء من أبي حميد"; فكلام بارد، فإنه قد قال: "سمع أنه كان جالسا في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، [ ص: 199 ] فقال محمد بن عمرو بن عطاء وقد قال: "رأيت أبو حميد"، أبا حميد"، ومرة "سمعت أبا حميد". فما هذا التكلف البارد والتعنت الباطل في انقطاع ما وصله الله؟!
وأما حديث عيسى بن عبد الله، فقال "اختلف في اسمه فقيل: البيهقي: عيسى بن عبد الله، وقيل عيسى بن عبد الرحمن، وقيل عبد الله بن عيسى.
ثم اختلف عليه في ذلك; فروى عن عن الحسن بن الحر، عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو، عن عياش - أو عباس - بن سهل، عن أبي حميد. وروى عن عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد، ليس فيه محمد بن عطاء.
وروينا حديث أبي حميد، عن عن فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل، أبي حميد، وبين فيه عن عبد الله بن المبارك، فليح سماع عيسى من عباس، مع سماع فليح من عباس، فذكر محمد بن عمرو بينهما وهم". آخر كلامه.
وهذا - والله أعلم - من تخليط عيسى أو من دونه، فإن حديث عباس هذا لا ذكر فيه لمحمد بن عمرو، ولا رواه محمد بن عمرو عنه، ونحن نذكر حديثه:
[ ص: 200 ] قال "حدثنا الترمذي: محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا حدثنا فليح بن سليمان، قال: عباس بن سهل أبو حميد، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [فقال أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه أبو حميد: . قال حسن صحيح. اجتمع
وقال حدثنا أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، أخبرنا عبد الملك بن عمرو، فليح، حدثنا قال: اجتمع عباس بن سهل، أبو حميد فذكره أطول من حديث وأبو أسيد" الترمذي.
قال "ورواه أبو داود: عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل" .
قال: "ورواه أخبرنا ابن المبارك، فليح، قال سمعت يحدث، فلم أحفظه، فحدثنيه [أراه ذكر] عباس بن سهل عيسى بن عبد الله، أنه سمعه من قال: حضرت عباس بن سهل، أبا حميد" .
فهذا هو المحفوظ من رواية عباس، لا ذكر فيه لمحمد بن عمرو بوجه.
ورواه من حديث أبو داود أبي خيثمة، حدثنا أخبرنا الحسن بن الحر، عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء أحد بني [ ص: 201 ] مالك، عن عباس، أو عياش بن سهل الساعدي: أنه كان في مجلس فيه أبوه، وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حميد، بهذا الخبر يزيد وينقص. وأبو أسيد..."
فهذا الذي غر من قال: إن محمد بن عمرو لم يسمعه من أبي حميد، وهذا - والله أعلم - من تخليط عيسى أو من دونه; لأن محمدا قد صرح بأن أبا حميد حدثه به وسمعه منه، ورآه حين حدثه به، فكيف يدخل بينه وبينه عباس بن سهل؟
وإنما وقع هذا لما رواه محمد بن عمرو، عن أبي حميد، ورواه العباس بن سهل عن أبي حميد، فخلط بعض الرواة وقال: "عن محمد بن عمرو عن العباس"، وكان ينبغي أن يقول: "وعن العباس" بالواو.
ويدل على هذا: أن عيسى بن عبد الله قد سمعه من عباس، كما في رواية فكيف يشافهه به ابن المبارك، ثم يرويه عن عباس بن سهل، محمد بن عمرو عنه؟ فهذا كله بين أن محمد بن عمرو اشتركا في روايته عن وعباس بن سهل أبي حميد، فصح الحديث بحمد الله.
وظهر أن هذه العلة التي رمي بها مما تدل على قوته وحفظه، وأن رواية شاهدة ومصدقة لرواية عباس بن سهل محمد بن عمرو، وهكذا الحق يصدق بعضه بعضا.
وقد رواه من حديث الشافعي إسحاق بن عبد الله، عن [ ص: 202 ] عن عباس بن سهل، أبي حميد ومن معه من الصحابة. ورواه عن فليح بن سليمان، عباس، عن أبي حميد. وهذا لا ذكر فيه لمحمد بن عمرو، وهو إسناد متصل تقوم به الحجة، فلا ينبغي الإعراض عن هذا والتعلق عليه بالباطل.
ثم لو نزلنا عن هذا كله، وضربنا عنه صفحا إلى التسليم أن محمد بن عمرو لم يدرك أبا قتادة، فغايته أن يكون الوهم قد وقع في تسمية أبي قتادة وحده دون غيره ممن معه. وهذا لا يجوز بمجرده ترك حديثه، والقدح فيه عند أحد من الأئمة.
ولو كان كل من غلط ونسي واشتبه عليه اسم رجل بآخر يسقط حديثه لذهبت الأحاديث ورواتها من أيدي الناس.
فهبه غلط في تسميته أبا قتادة، أفيلزم من ذلك أن يكون ذكر باقي الصحابة غلطا، ويقدح في قوله: "سمعت أبا حميد"، و"رأيت أبا حميد"، أو "أن أبا حميد قال" ؟!
وأيضا فإن هذه اللفظة لم يتفق عليها الرواة، وهي قوله "فيهم أبو قتادة"، فإن محمد بن عمرو بن حلحلة رواه عن ولم يذكر "فيهم محمد بن عمرو بن عطاء، أبا قتادة"، ومن طريقه رواه ولم يذكرها. البخاري
[ ص: 203 ] وأما فرواه عنه عبد الحميد بن جعفر، هشام ولم يذكرها، ورواه عنه أبو عاصم الضحاك بن مخلد، ويحيى بن سعيد فذكراها عنه، وأظن تفرد بها. عبد الحميد بن جعفر
ومما يبين أنها ليست بوهم: أن محمد بن مسلمة قد كان في أولئك الرهط، ووفاته سنة ثلاث وأربعين، فإذا لم تتقاصر سن محمد بن عمرو عن لقائه، فكيف تتقاصر عن لقاء أبي قتادة؟ ووفاته إما بعد الخمسين عند الأكثرين، أو قبيل الأربعين عند بعضهم. والله الموفق للصواب.