[ ص: 132 ] اسم الجنس إذا أدخلت عليه الألف واللام
وأما اسم الجنس بأقسامه السابقة ، فإذا دخلت عليه الألف واللام سواء الاسم كالذهب والفضة ، أو الصفة المشتقة كالضارب ، والمضروب ، والقائم والسارق ، والسارقة ، فإن كان للعهد فخاص ، سواء الذكري كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا . فعصى فرعون الرسول } أو الذهني كقوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } فإن اللام في الرسول للعهد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ .
وإن لم يرد به معهود ، فاختلفوا فيه على أقوال :
أحدها : أنه يفيد استغراق الجنس ، ونقل عن نص في " الرسالة " و " الشافعي البويطي " ونقله أصحابه عنه في قوله تعالى : { وأحل الله البيع } ، وهو كذلك في " الأم " من رواية الربيع ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } إنكارا على قول عبد الله بن أبي ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) فدل على أن اسم الجنس المعرف يعم ، ولولا ذلك لما تطابق ، والفقهاء كالمجمعين عليه في استدلالهم بنحو { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني } وهو الحق ; لأن الجنس معلوم قبل دخول الألف واللام ، فإذا دخلتا ولا معهود ، فلو لم يجعله للاستغراق لم يفد شيئا جديدا . [ ص: 133 ]
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وسليم الرازي في " التقريب " : " إنه المذهب " ، ونقله عن القائلين بالصيغ قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول جمهور الأصوليين ، وكافة الفقهاء . وقال به القاضي عبد الوهاب أبو عبد الله الجرجاني ، ونسبه لأصحابه الحنفية . وقال : إنه مذهب القرطبي وغيره من الفقهاء . وقال مالك الباجي : " إنه الصحيح " ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان ، وابن السمعاني والجبائي ، ونصره عبد الجبار ، وصححه إلكيا الطبري ، ، ونقله وابن الحاجب الآمدي عن والأكثرين ، ونقله الشافعي الإمام فخر الدين عن والفقهاء . المبرد
قلت : ونص عليه فإنه قال : قولك شربت ماء البحر محكوم بفساده ، لعدم الإمكان ولولا اقتضاؤه العموم لما جاء الفساد . سيبويه
لكن اختلف أصحابنا في أن العموم فيه من حيث اللفظ أو المعنى على وجهين ، حكاهما ، الشيخ أبو حامد وسليم الرازي في " التقريب " ، وابن السمعاني في " القواطع " ، وصحح ابن السمعاني أنه من حيث المعنى ، وكأنه لما قال : { والسارق والسارقة } فهم أن القطع من أجل السرقة .
وصحح سليم أنه من جهة اللفظ ; لأن اللام إما للعهد وهو مفقود ، فبقي أن يكون لاستغراق الجنس ، وذلك مأخوذ من اللفظ ، وشرط بعضهم لإفادته العموم أن يصلح أن يخلف اللام فيه " كل " كقوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } ولهذا صح الاستثناء منه .
والثاني : أنه يفيد تعريف الجنس ، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل ، [ ص: 134 ] وحكاه صاحب " المعتمد " عن وحكاه صاحب " الميزان " عن أبي هاشم النحوي ، واختاره الإمام أبي علي الفارسي فخر الدين وأتباعه ، وحكى بعض شراح " اللمع " عن الجبائي أنه على العهد ، ولا يقتضي الجنس ، قال : وحقيقة هذا القول أنه إذا لم يعرف عين المعهود صار مجملا ، لأنه لا يعرف المراد إلا بتفسير ، وهذا صفة المجمل .
والثالث : أنه مشترك يصلح للواحد والجنس ، ولبعض الجنس ، ولا يصرف إلى الكل إلا بدليل ، وحكاه الغزالي وقال الأستاذ أبو إسحاق : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه مجمل يحكم بظاهره ، ويطلب دليل المراد به .
والرابع : التفصيل بين ما فيه الهاء ، وبين ما لا هاء فيه ، فما ليس فيه الهاء للجنس عند فقدانها ، وفي القسم الآخر التوقف ، ونقله الإبياري عن إمام الحرمين ، وقال : إنه الصحيح ، والذي في البرهان ونقله عنه المازري أنه إن تجرد عن عهد فللجنس ، نحو الزانية والزاني ، وإن لاح عدم قصد المتكلم للجنس فللاستغراق ، نحو الدينار أشرف من الدرهم ، وإن لم يعلم هل خرج على عهد أو إشعار بجنس فمجمل ، وأنه حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، وإنما ثبت عمومه ، وتناوله الجنس بحالة مقترنة معه مشعرة بالجنس .
الخامس : التفصيل بين أن يتميز لفظ الواحد فيه عن الجنس بالتاء كالتمر والتمرة ، فإذا عري عن التاء اقتضى الاستغراق ، كقوله عليه الصلاة والسلام : { } قال في " المنخول " : [ ص: 135 ] وأنكره لا تبيعوا البر بالبر ، والتمر بالتمر الفراء مستدلا بجواز جمعه على تمور ، ورد بأنه جمع على اللفظ لا المعنى . وإن لم تدخل فيه التاء للتوحيد ; فإن لم يتشخص مدلوله ، ولم يتعدد " كالذهب " فهو لاستغراق الجنس ، إذ لا يعبر عن أبعاضه بالذهب الواحد ، وإن تشخص مدلوله وتعدد كالدينار والرجل ، فيحتمل العموم ، نحو { } ، ويحتمل تعريف الماهية ، ولا يحمل على العموم إلا بدليل ، وإنما : الجنس قولك ، الدينار أفضل من الدرهم بقرينة التسعير . لا يقتل المسلم بالكافر
وهذا التفصيل ذكره الغزالي في " المستصفى " ، و " المنخول " ، واختاره الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد والمريسي ، ونازعه بعض المغاربة فيما ذكره في الدينار والرجل . وقال الحق ما حققه وهو في كتاب " معيار العلم " في الاسم المفرد إذ دخل عليه الألف واللام لتعريف الجنس ، فإنه أطلق فيه اقتضاءه الاستغراق بمجرده ، ولا يحتاج فيه إلى قرينة زائدة .
وقال في " المستصفى " : يحتمل كونها للعهد أو الجنس . وكأنه حقيقة فيهما ، وهذا تناقض . قال : والعموم فيه غير عموم الحكم لكل واحد ، [ ص: 136 ] فإن عموم الاسم المفرد إنما معناه أنه يدل على معنى يدخل تحته كثرة تشمله ، ويصح أن يخبر به عن كل واحد منها ، وهذا معنى كون المفرد كليا ، وأما العموم الآخر ، وهو عموم الحكم لكل واحد ، فلا يكون إلا في قول : كخبر ، أو أمر ، أو نهي ، مثل : الإنسان في خسر ، واقتلوا المشركين ، والحكم في قولك : خسر ، وكذلك القتل في الأمر . انتهى .
وحكى الإمام وابن القشيري عن بعض القائلين بصيغ العموم أن ما كان من أسماء الأجناس يجمع كالتمر والتمور ، فإن ذلك لا يقتضي الاستغراق ; لأن ذلك إنما يؤخذ منه حالة الجمع . قال الإمام : وهذا لا حاصل له ، فإن الاستغراق ثابت في أسماء الأجناس ، ويرد عليهم امتناع قول القائل : تمر واحد ، وهو أظهر من متعلقهم في الجمع .
وقد قال : الناقة تجمع على نوق ، ثم النوق تجمع على نياق ، وهما من أبنية الكثرة ، ثم يجمع النياق على أينق هو ، وهو مقلوب آنق أو أنيق ، والأفعل من جمع القلة . سيبويه
ثم قال الإمام : والحق أن التمر أقعد بالعموم من التمور ، لاسترساله على الآحاد لا بصيغة لفظية ، وأما التمور فإنه يرد إلى تخيل الوحدات ثم يجيء الاستغراق بعده من صيغة الجمع . قال شارحوه : يريد أن مطلق لفظ التمر بإزاء المعنى المشتمل للآحاد ، والتمر يلتفت فيه إلى الواحد ، فلا يحكم فيه على الحقيقة بل على أفرادها .
وحاصله أنه إذا قال : تمور ، فقد تخيل رده إلى الواحد عند إرادة الجمع ، وأراد دلالته على الجنس ، وهي غير مختلف فيها ، وصير دلالة الجنس إلى لفظ الجمع الذي فيه خلاف . وقوله : الجمع يرد إلى تخيل الوحدات ، ينبغي أن يضاف إليه . " المقصودة " ، وإلا فاسم الجنس يتخيل فيه [ ص: 137 ] الوحدات ، لكن آحاده غير مقصودة بخلاف الجمع ، وتمثيله بالتمر معرفا يؤخذ منه أن التمر مفرد ، وأن المفرد المعرف باللام يعم .
وقد اختلف في التمر : هل هو اسم جنس ، لأنه تميز به ، ولا تميز إلا بأسماء الأجناس ، أو جمع تمرة يفرق بين واحده وجمعه بالتاء ؟ والصواب : الأول ، فإن التمر لا يدل على أفراد مقصودة بالعدد وإنما يجمع إذا قصدت أنواعه لا أفراده ، فهو في أصل وضعه كماء .
وقد قرأ : ( كل آمن بالله وملائكته وكتابه ) وقال : " كتابه أكثر من كتبه " يريد أن كتابه ينصرف إلى جنس كتب الله المنزلة ، فدلالته أعم من كتبه ، لأن كتبه جمع . ابن عباس
قال : لأن الكتاب واحد نحي به نحو الجنس ، فهو أبلغ في العموم من الجمع ، فمعناه مفردا أدل على الاستغراق منه جمعا ، وفي قوله : نحى به نحو اسم الجنس ، ما يحتمل أن يريد غير اسم الجنس ، لأن ما نحي به نحو الشيء غير ذلك الشيء ، فيجوز أن يكون يرى أن تمرا اسم جمع لا جمع كرهط وقوم ، وهو قول ، ففي تمر إذن ثلاثة أقوال ، وقال في قوله تعالى : { الزمخشري والملك على أرجائها } إن الملك أعم من الملائكة ، وذكر هذا المعنى في مواضع .
واعلم أن هذا الخلاف نظير الخلاف السابق في الألف واللام الداخلة على الجمع ويزيد هاهنا مذاهب أخرى كما بينا .
وحاصله أن الألف واللام الداخلة على المفرد أو الجمع تفيد الاستغراق فيهما جميعا عند معظم الأصوليين ، إلا إذا كان معهودا .
والثاني : أنه لمطلق الجنس فيهما لا الاستغراق ، وهو أحد [ ص: 138 ] قولي من أبي هاشم المعتزلة .
والثالث : وهو قوله الآخر إنه في المفرد لمطلق الجنس ، وفي الجمع لمطلق الجمع ، لا للاستغراق إلا بدليل آخر .
وقال : إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به ، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه ، وإذا دخلت على الجمع صح أن يراد به جميع الجنس ، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد ، وهذا منقوض بقوله تعالى : { الزمخشري لا يحل لك النساء من بعد } فإن الحرمة غير متوقفة على الجمع وقوله تعالى : { فنادته الملائكة } .
والصحيح ما ذهب إليه العامة بدليل قوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } والمراد به كل الجنس بدليل استثناء المؤمنين منه ، وكذلك قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } إلى قوله : { إلا الذين آمنوا } وقوله : { إن الإنسان خلق هلوعا } إلى قوله : { إلا المصلين } ، واستثناء المصلين دال على الاستغراق ، وكذلك قوله عليه السلام : { } والمراد به كل جنس الحنطة ، ولنا [ ص: 139 ] في الجمع قوله تعالى : ( يأيها الناس ) والمراد به كل الجنس ، وكذا قوله : { الحنطة بالحنطة والخيل والبغال والحمير } والمراد به الكل ، والمعقول في المسألة أن مطلق الجنس كان مستفادا قبل دخول اللام ، ولا بد لدخولها من فائدة ، وليس ذلك إلا الاستغراق .
والحاصل أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس ، إما أن يقصد بها العهد فلا إشكال في عدم عمومه ، وإما أن يقصد بها تعريف اسم الجنس فلا إشكال في عمومه ، وإما أن يشكل الحال فهل يحمل على العموم أو العهد ؟ خلاف ، والصحيح التعميم ، وإما أن يقصد تعريف الماهية ، أي حقيقة الجنس مع قطع النظر عن الأفراد ، فهي لبيان الحقيقة .
ومنه قولك : الرجل أفضل من المرأة ، قال ابن القشيري في أصوله : هذا مما ترددوا فيه ، فقيل : لاستغراق الجنس . وقيل : لا واختار الإمام التفصيل بين أن يعرف هنا بناء على تنكير سابق ، مثل أن يقول : اقتل رجلا ثم يقول : اقتل الرجل ، فلا يقتضي العموم ، فإن قاله ابتداء فللجنس ، وإن لم يدر هل خرج تعريفا لنكرة سابقة أو إشعارا بالجنس ، فميل المعظم إلى أنه للجنس .
والحق عندنا أنه مجمل ، فإنه من حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، بل لاقتران حالة مشعرة بالجنس ، فإذا لم توجد لم يتجه إلى التوقف ، وإما أن يدخل للمح الصفة كالحسن والحسين ، أو للغلبة كالنجم للثريا ، فلا إشكال في عدم عمومها كغيرها من الأعلام .