مسألة ( حقائق الأحكام الخمسة متباينة ) فلا يجتمع شيء منها مع الآخر ، وهو واضح من حدودها [ ص: 308 ] وقال من لم يتحقق تباين الحقائق : إن إيجاب الشيء يقتضي جوازه ، ونقله حقائق الأحكام الخمسة من حيث تمامها متباينة ابن القشيري عن الفقهاء ومعظم الأصوليين . قال : وأنكر القاضي إطلاق هذا ، وقال : لا معنى للجواز بعد ثبوت الوجوب ، إذ لا يحسن ، والأحكام مضبوطة . ثم قال تسمية الوجوب جوازا ، وتسمية الواجب جائزا ابن القشيري : ولا يتحقق خلاف في هذه المسألة ; لأن أحدا لا يقول حقيقة الجائز أو المباح حقيقة الواجب ، وغرض الخصم أن ما يلام على تركه ويقتضي اللزوم أن يكون فيه تحريض على فعله ، ومن ضرورة ما يحرض على فعله أن يجوز لك الإقدام عليه ، وهذا مما لا ينكره أحد غير أن غرض الموجب الإلزام ، والباقي يقع ضمنا ولكن على هذا ينبغي للخصم أن يقول : يدل على الندب والجواز ، والمحكي قصر الخلاف على الجواز .
إذا عرفت هذا فلو ؟ ، فيه مذاهب . أحدها : أنه يبقى الجواز واختاره ثبت الوجوب في شيء ، ثم نسخ الوجوب . فهل يبقى الجواز أم لا الباجي من المالكية ، وصاحب " المحصول " وتابعه المتأخرون ، وعزاه بعضهم للأكثرين ، وليس كذلك ، والثاني : أنه يرجع الأمر إلى الحظر . حكاه العبدري وهو غريب . الثالث : يبقى الندب حكاه في " المعتمد " . قال : وعليه يدل مذهب الطرطوشي ، فإن صيام عاشوراء لما نسخ بقي صيامه مستحبا ، ولما نسخ فرض قيام الليل بالصلوات الخمس بقي مستحبا ، وكذلك الضيافة كانت واجبة في أول الإسلام ثم نسخ كل حق كان في المال بالزكاة ، وبقي [ ص: 309 ] ذلك كله مستحبا ، فيجوز على هذا الأصل أن مالك . قال : هكذا حكى يحتج بالآثار المنسوخة على الاستحباب وعلى الجواز محمد بن خويز منداد عن المذهب . قال : وصار إليه بعض الشافعية ، وهذا يرد قول الطرطوشي الغزالي في " المستصفى " وابن القشيري في أصوله " : أنه لم يصر إلى الندب أحد . الرابع : أنه إذا نسخ لم يبق منه شيء ولم يثبت ندب ولا إباحة إلا بدليل حكاه ، قال : ومنعوا أن يستدل به على الجواز فضلا عن الندب ، والخامس : لا تبقى الإباحة التي تثبت في ضمن الوجوب بل يرجع الأمر إلى ما كان قبله من تحريم أو إباحة ، وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن ، وهو قول أكثر أصحابنا ، وصححه الطرطوشي القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق والغزالي وابن السمعاني وابن برهان وإلكيا الطبري .
قال : إلا أن يأتي ما يدل على الإباحة ، واختاره ابن القشيري أيضا . قال : ولو جاز أن يقال : إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز لساغ أن يقال : يبقى الندب ، لا سيما والاقتضاء كائن في الندب كما أنه كائن في الوجوب ، واحتج له ، القاضي أبو الطيب وغيرهما بأن الأمر موضوع للوجوب ، والجواز إنما دخل فيه بطريق التبع ، إذ لا يجوز أن يكون واجبا ويمتنع فعله ، وإذا انتفى اللفظ فلا يبقى ما كان في ضمنه . [ ص: 310 ] وقال والشيخ أبو إسحاق شمس الأئمة السرخسي : إنه قول العراقيين من مشايخهم . قال : وبنوا على هذا الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم : { } ، فإن صيغة الأمر توجب التكفير سابق على الحنث ، وقد قام الإجماع على عدم وجوبه ، فبقي الجواز عند من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، ثم ليأت الذي هو خير ، ولم يبق عندنا . ثم القائلون ببقاء الجواز اختلفوا في المراد به ، هل هو عدم الحرج عن الفعل فقط ، أو رفعه عن الفعل والترك ؟ وقال الشافعي ابن دقيق العيد والصفي الهندي وغيرهما : عند التحقيق يرتفع الخلاف ; لأن الجواز يطلق ويراد به نفي الحرج ، ويطلق ويراد به ما تساوى فعله وتركه ، فإن أريد الأول فهو جزء ماهية الوجوب ، فإذا ارتفع قيد المنع من الترك بقي الجواز قطعا ، والثاني ليس جزء ماهية الوجوب فلا يلزم من ارتفاع قيد المنع من الترك بقاء التساوي . قال ابن دقيق العيد : ويمكن أن يفرض الخلاف في الصورة الأولى ، وهو أنه إذا قيل : أوجبت عليك الشيء الفلاني ، ثم قال : نسخت الوجوب ، هل يباح له الإقدام على الفعل أم لا ؟ . وكلام الغزالي في " المستصفى " صريح في أن المراد بالجواز معنى التخيير بين الفعل والترك [ ص: 311 ] شرعا ، فإنه قال في الرد عليهم : حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشارع .
وقال ابن التلمساني : أكثرهم يجعل الخلاف لفظيا ، لأنهما لم يتواردا على محل واحد ، فإن الغزالي عنى بالجواز الذي لا يبقى بعد رفع الوجوب التخيير ، ولا شك في أنه ليس جزءا للواجب بل هو قسيمه ومقابله ، ومن قال يبقى ، لم يعن بالجواز الجزء بل عنى به رفع الحرج ، ولا شك في أنه جزء من الواجب . قال الأصفهاني : فيه نظر ; لأن الرازي يقول : يبقى الجواز بمعنى التخيير بين الفعل والترك . قال : وبه تبين أن الخلاف معنوي ، وأن ما قاله ابن التلمساني ليس بحق ، وقال القرافي : ظاهر كلامهم أن الخلاف في الجواز بمعنى مستوي الطرفين ، وهو بعيد ، قال وصورة المسألة : أن . أما إن نسخ الأمر بالتحريم ثبت التحريم قطعا ، أو قال رفعت جملة ما دل الأمر السابق من جواز وغيره فلا يستدل به على الجواز قطعا . يرد الأمر ثم يقول الآمر : رفعت الوجوب فقط
قلت : الغزالي منازع في أصل بقاء الجواز ; لقوله : إن الحال يعود إلى ما قبل من تحريم أو إباحة ، وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا كان الحال قبل الوجوب تحريما ، فعند الغزالي وغيره يكون الفعل الآن محرما كما كان أو لا ، وعند الأولين أن مطلق الجواز الذي كان داخلا في ضمن الوجوب باق يصادم ما دل على التحريم ، فالخلاف ممنوع قطعا . [ ص: 312 ] وللمسألة التفات إلى بحث عقلي ، وهو أن الفصل علة لوجود حصة النوع من الجنس ، ويلزم من عدم الفصل عدم حصة النوع من الجنس ضرورة أنه يلزم من عدم العلة عدم المعلول ، هو القائل بهذه القاعدة ، وابن سينا والرازي يخالفه فيها ، ويقول : ذلك غير لازم ، وإلى بحث أصولي ، وهو أن المباح هل هو جنس للواجب ، والجائز بالمعنى الأخص أم لا ؟ والمراد بالمعنى الأخص ما لفاعله أن يفعله مع جواز تركه ، وبالأهم ما لفاعله أن يفعله ، فيدخل فيه الواجب والمندوب ، ولهذا قدمت ذكر هذه المسألة عليها .
وعبر عنها شمس الأئمة السرخسي في كتابه بأن مطلق الأمر هل يستلزم وجوب الأداء ، أم لا ؟ والأكثرون على أنه يستلزم . وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يستلزم حتى يقوم دليل عليه ، فإن من أفسد حجه مأمور بالأداء شرعا ، ولا يكون المؤدى جائزا ، وعبر عنه الإمام محمد بن يحيى تلميذ الغزالي في كتابه " المحيط " بعبارة أخرى ، فقال : ؟ خلاف ، وفرع عليه ما إذا قام عن السجود ناسيا ، وقصد الاستراحة ، فإن قلنا : النفل داخل في حقيقة الفرض فلم تكن الاستراحة فيه مناقضة لنية الفرض الباقية كلها ، بل تعرضت لبعضها فصحت الجلسة عن الفرض بالنسبة الحكمية ، وإن جعلنا النفل غير الفرض فلم يجز عن الفرض بنية النفل . انتهى . هل الفرض داخل في جنس النفل على معنى أنه نفل وزيادة أو هما نوعان مختلفان
ويتخرج عليه المسائل المعدودة في إقامة النفل مقام الفرض كاللمعة وغيرها .