[ ] وأما من عرف بتدليس الرواة مع صدقه في المتون تدليس الرواة كشريك ، ، وهشيم ، وقتادة ، والأعمش - وقيل : إن التدليس في أهل وسفيان بن عيينة الكوفة أشهر منه في أهل البصرة - فله أحوال : أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء بغيرها كما يقول عن اسم زيد بن خالد عمرو بن بكر ، فهو كذب يرد به حديثه . قاله الماوردي و الروياني . ثانيها : أن يسميه بتسمية غير مشهورة ، وسهل [ ص: 205 ] أمره . وقال ابن الصلاح ابن السمعاني : ليس يجرح إلا أنه بحيث لو سئل عنه لم ينبه عليه ، وأما أبو الفتح بن برهان فقال : هو جرح إلا أن يكون الذي يروي باسمه من أهل الأهواء ، ولكنه عدل عن اسمه المشهور صونا له عن القدح . فلا ترد بذلك روايته ، لأن من العلماء من قبل أهل الأهواء . ا هـ .
وليس من هذا إعطاء شخص اسم آخر تشبيها له ، كقول القائل : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ويعني به بعض مشايخه تشبيها ، يعني بالبيهقي . ثالثها : أن يكون التدليس في اطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الحديث إلى من هو أبعد منه ، فهذا قد فعله الحاكم ، فلا يكون به مجروحا ، لكن لا يقبل من حديثه إذا روي عن فلان ، حتى يقول : حدثني أو أخبرني ، قاله سفيان بن عيينة الماوردي والروياني . وقال إلكيا الطبري : من قبل المراسيل لم ير له أثرا ، إلا أن يدلس لضعف عمن سمع منه فلا يعمل به ، وأما إذا لم يعلم بمطلق روايته ، فلا بد أن يقول : حدثني أو أخبرني أو سمعته . وفصل ابن السمعاني في " القواطع " بين أن يعرف بالتدليس ويغلب عليه ، وإذا استكشف لم يخبر باسم من يروي عنه ، فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه ، لأنه تزوير لا حقيقة له ، وذلك يؤثر في صدقه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } ، وبين أن يرى اسم من يروي عنه ، إلا أنه إذا كشف عنه أخبر باسمه وأضاف الحديث إلى ناقله ، فهذا لا يسقط الحديث ، ولا يقتضي القدح في الراوي ، وقد كان المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور يدلس ، فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه . [ ص: 206 ] سفيان بن عيينة
ومذهب أن من اشتهر بالتدليس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالسماع والتحديث ، فأما إذا قال عن فلان لم يقبل . وأما إذا لم يشتهر بالتدليس فيقبل منه إذا حدث بالضعف ; لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبا للخفة والاختصار . وقال الشافعي في كتاب " الدلائل والأعلام " : كل من ظهر تدليسه من غير الثقات لم يقبل خبره ، حتى يقول : حدثني أو سمعت ، ومن قال في الحديث : حدثنا فلان عن فلان ، قبل خبره ; لأن الظاهر أنه إنما حكى عنه ، وإنما توقفنا في المدلس لعيب ظهر لنا فيه ، وإن لم يظهر فهو على سلامته ، ولو توقيناها لتوقينا في حدثنا لإمكان أن يكون حدث قبيلته وأصحابه ، كقول أبو بكر الصيرفي الحسن : خطبنا فلان بالبصرة ، ولم يكن حاضرا ; لأنه احتمال لاغ ، فكذلك من علم سماعه إذا كان عن مدلس ، وكذلك إذا قال صحابي كأبي بكر : قال رسول الله كذا ، فهو محمول على السماع والقائل بخلاف ذلك يغفل . وقال وعمر أبو الحسين بن القطان في كتابه : المدلس هو من يوهم شيئا ظاهره بخلاف باطنه ، وليس بصريح من الكذب ، مثل أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون بينه وبين الرسول واسطة . فإذا كف ذلك منه وجب أن يكف عن إخباره . وقد شدد بعض المحدثين فيه ، فقال : لأن أدمى أحب إلي من أن أدلس . قال : ووجدت ابن أخي شعبة هشام حكى عن أنه لا يجيز التدليس ، ولا يقول به . ويقول : هذا الشافعي سليمان الشاذكوني يقول : من [ ص: 207 ] أراد أن يتدين بالحديث ، فلا يكتب عن فلان وفلان شيئا إلا ما قالا : حدثنا ، أو أخبرنا ، وما سوى ذلك فهو خل وبقل . قال : ومن عرف بالتدليس وقف في خبره .
قال أبو الحسين : وجملته أن المحدث إن قصد بقوله عن فلان إيهام أنه سمع منه فهو غش ، وإن كان على طريق الفتوى كقصة في الجنب يصوم ، فإن ذلك لا يضره . قال : والكلام في الصحف وغيرها مثل هذا ، ولا يقبل ذلك الكتاب إلا أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتاب أبي هريرة عمرو بن حزم . فأما إذا كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يجعل أصلا ، فيقال به ; لأنه لم يسمعه إلا وقد صح شرائطه ، ويجوز أن يقال : يقف عنه حتى يعلم من أي وجه كان . ا هـ . قال : ومن عرف بالتدليس لا يقبل منه حرف ، حتى يبين سماعه ، ويقبل ذلك من الثقات ، وقد يعرف التدليس بأن يكثر عن المجهولين ، ويصل الوقوف ، وإذا فعل ذلك توقف في خبره ، وكذلك قال في كتابه : من عرف بالتدليس ، لم يقبل خبره ، حتى يخبر بالسماع ، فيقول : سمعت أو أخبرني أو حدثني ونحوه . فأما إذا قال : قال فلان فلا يقبل ; لأن تدليسه ظهر . فالواجب التوقف عنه في خبره ، وإنما يسامح الثقات غير المعروفين بالتدليس في قولهم عن فلان ; لأن ذلك أخف من الإخبار بالسماع في خبره ، ويحمل ذلك منهم على السماع على حمله ما عرف منهم ، فصير ذلك كاللغة الجارية ، [ ص: 208 ] فأما من ظهر فيه التدليس فلا بد من الكشف ، ليوقف على من سمع منه الخبر لينظر في أحواله . ا هـ . القفال الشاشي
وقال ، القاضي أبو الطيب : إن عرف بالتدليس لم يقبل ، حتى يصرح بالتحديث ، وإن لم يعرف به قبل منه قوله : قال فلان إذا حكاه عمن أدركه وحمل على سماعه منه . قال والأستاذ أبو منصور سليم : وذهب بعض المحدثين إلى أنه لا يقبل خبر المدلس بحال ، وجعله جرحا ، وقال : اختلفوا في قبول خبر المدلس ، وهو الذي يعزي الرواية إلى رجل بينه وبينه رجل آخر ، فعن أصحاب القاضي عبد الوهاب أنه تقبل روايته ، وهو قول أبي حنيفة على ما حكاه داود الجزري ، ولا شك أن روايته لا تقبل على رأي من رد المراسيل ، وإنما الخلاف في ذلك فيمن قبلها ، وحكي عن أنه شدد في المنع من قبول روايته ، حتى قال : لا تقبل منه إذا قال : أخبرني ، حتى يقول : حدثني أو سمعت ; لأن هذا القول لا لبس فيه ، والأول فيه لبس . قال : وذكر بعض أصحابنا قبول روايته ، والظاهر على أصول الشافعي عندي أنها مردودة ، وحكى مالك المازري الخلاف في قبول حديث المدلس ، ثم اختار أنه يقدح في ورعه وتحفظه .
وأما قبول حديثه أو رده ، فيتوقف على الاطلاع على تأويله ، وغرضه الباعث له على التدليس ، وعلى الفطن في مقدار تغريره بالسامعين منه ، وهل أمن أن يقعوا بما حدثهم في نقل ما لا يحل لهم ، لو أبدى لهم ما كتم أم لا ؟ [ ص: 209 ] وقال القاضي في " التقريب " : التدليس يتضمن الإرسال لا محالة ; لاشتراكهما في حذف الواسطة . وإنما يفترقان في أن التدليس يوهم سماع من لم يسمع منه ، وهو الموهن لأمره ، والإرسال لا يتضمن التدليس ; لأنه لا يوهم ذلك ، والجمهور على قبول خبره ، وقال به جمهور من قبل المرسل ، وقيل : لا يقبل لما فيه من التوهم . والمختار أن من عرف منه لم يقبل إذا أورده على وجه يحتمل السماع وغيره ، وإن لم يوهم ذلك قبل .
وقال : وأما من قال في الإجازة والمناولة : حدثني أو أخبرني ، فإن قلنا : إنه يجوز العمل بالإجازة قبل ، ومن لا يجوزه لم يقبله لإيهام إرادة ما يجوز العمل به ، وهو لا يجوزه .