[ ص: 149 ] الشرط الثالث [ ] فالفاسق لا تقبل روايته كما لا يوثق بشهادته ، والعدل هو العادل توسعا ، مأخوذ من الاعتدال ، وفي الاصطلاح : من تقبل شهادته ويحكم بها . والعدالة في الأصل هي الاستقامة ، يقال : طريق عدل ، لطريق الجادة ، وضدها الفسق ، وهو الخروج عن الحد الذي جعل له ، والمقصود أن لا تقبل روايته من حيث إن هواه غالب على تقواه ، فلا تصح الثقة بقوله ، ثم ضابط الشرع في ذلك معتبر ، فلو لاح بالمخايل صدقه لم يجز قبول روايته ، فإنه يخالف ضابط الشرع ، وليس لنا أن نعمل بكل ظن ، بل ظن له أصل شرعا . هذا إذا رجع الفسق إلى الديانة فلا خلاف فيه كما قاله العدالة في الدين ابن برهان وغيره ، فإن رجح إلى العقيدة كأهل الأهواء والبدع فقد سبق حكمه . قال القاضي : ولا تقبل ممن اتفق على فسقه ، وإن كان متأولا . [ تعريف العدالة ] واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ، ولكن اختلف في معناها ، فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم معرفة الفسق ، وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة ، والرذائل المباحة كالبول في الطريق ، والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة ، لا حاجة ; للإصرار على الصغيرة ; لأنها تصير كبيرة . قال ابن القشيري : والذي صح عن أنه قال : ليس من الناس من يمحض الطاعة ، فلا يمزجها بمعصية ، ولا في المسلمين من يمحض [ ص: 150 ] المعصية ، فلا يمزجها بالطاعة . فلا سبيل إلى رد الكل ، ولا إلى قبول الكل ، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها . وهو ظاهر في جري الرواية والشهادة مجرى واحدا ، وعليه جرى الشافعي القاضي .
وقال : من قارف كبيرة ردت شهادته ، ومن اقترف صغيرة لم ترد شهادته ، ولا روايته . قال : والمواظبة على الصغيرة كمقارفة الكبيرة ، وقال : لو ثبت كذب الراوي ردت روايته إذا تعمد ، وإن كان لا يعد ذلك الكذب من الكبائر ; لأنه قادح في نفس المقصود بالرواية . وقال أبو بكر الصيرفي القاضي ما معناه : المعني في الرواية الثقة ، فكل ما لا يخرم الثقة لا يقدح في الرواية ، وإنما القادح ما يخرم الثقة . ا هـ . وقال الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام " : المراد بالعدل من كان مطيعا ; لله في نفسه ، ولم يكثر من المعاصي إلا هفوات وزلات ، إذ لا يعرى واحد من معصية ، فكل من أتى كبيرة فاسق ، أو صغيرة فليس بفاسق ، لقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } ومن تتابعت منه الصغيرة وكثرت وقف خبره ، وكذا من جهل أمره . قال : وما ذكرت من متابعة الأفعال للعاصي أنها علم الإصرار ; لعلم الظاهر ، كالشهادة الظاهرة ، وعلى أني على حق النظر لا أجعل المقيم على الصغيرة المعفو عنها ، مرتكبا للكبيرة إلا أن يكون مقيما على المعصية المخالفة أمر الله دائما . قال : فكل من ظهرت عدالته فمقبول حتى يعلم الجرح ، وليس لذلك غاية يحاط بها وأنه عدل في الحقيقة ، ولا يكون موقوفا حتى يعلم الجرح . ا هـ .
وقال ابن السمعاني في القواطع " : لا بد في العدل من أربع شرائط : 1 - المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية . [ ص: 151 ] وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض . 3 - وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ، ويكسب الندم . 4 - وأن لا يعتقد من المذاهب ما ترده أصول الشرع . وقال إمام الحرمين : الثقة من المعتمد عليها ، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل ، وهذا مفهوم من عادة الأصوليين ، وهذا ظاهر نص في ، الرسالة " فإنه قال : وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه ، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه ، فإن كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قبل وإن كان فيه تقصير من بعض أمره ; لأنه لا يعرى أحد رأيناه من الذنوب ، فإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره ، والتمييز بين حسنه وقبحه . ا هـ . الشافعي
واعلم أن العدالة في الرواية وإن كانت عندنا شرطا بلا خلاف ، لكن اختلف أصحابنا هل ينتهي إلى العدالة المشترطة في الشهادة أم لا ؟ وفيه وجهان حكاهما ابن عبدان في شرائط الأحكام . أحدهما : أن تعتبر العدالة ممن يقبله الحاكم في الدماء والفروج والأموال ، أو زكاه مزكيان . [ ص: 152 ] والثاني : أنه لا يعتبر في ناقل الخبر ، وعدالته ما يعتبر في الدماء والفروج والأموال ، بل إذا كان ظاهره الدين والصدق قبل خبره ، هذا كلامه . قلت : وظاهر نص على الأول ، فإنه قال في اختلاف الحديث في جواب سؤال أورده : فلا يجوز أن يترك شهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر . ا هـ . وهو ظاهر في أن ظاهر العدالة من يحكم الحاكم بشهادته . ثم اختلفوا في مواطن . الشافعي