[ ادعاء المرأة نفقة ماضية ]
المثال السابع عشر : إذا ، فقد اختلف في قبول دعواها ، ادعت المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية فمالك لا يقبلان دعواها ، ثم اختلفا في مأخذ الرد ; وأبو حنيفة يسقطها بمضي الزمان ، كما يقوله منازعوه في نفقة القريب ، فأبو حنيفة لا يسمع الدعوى التي يكذبها العرف والعادة ، ولا يحلف عنده فيها ، ولا يقبل فيها بينة ، كما لو كان رجل حائزا [ ص: 273 ] دارا متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ، ومع ذلك لا يعارضه فيها ، ولا يذكر أن له فيها حقا ، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث ، ونحو ذلك ، ثم جاء بعد تلك المدة فادعاها لنفسه ، فدعواه غير مسموعة فضلا عن إقامة بينته . قالوا : وكذلك إذا ومالك ; فدعواها غير مسموعة ، فضلا عن أن يحلف لها ، أو يسمع لها بينة . قالوا : وكل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة . كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز ، ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة
وهذا المذهب هو الذي ندين الله به ، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه ، وكيف يليق بالشريعة أن تسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس أنها كذب وزور ؟ وكيف تدعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها يوما واحدا ولا كساها فيها ثوبا ، ويقبل قولها عليه ، ويلزم بذلك كله ؟ ويقال : الأصل معها وكيف يعتمد على أصل يكذبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع ؟ والمسائل التي يقدم فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى ، ومثل هذا المذهب في القوة مذهب ، وهو سقوطها بمضي الزمان ; فإن البينة قد قامت بدونها ; فهي كحق المبيت والوطء . أبي حنيفة
ولا يعرف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم - قضى لامرأة بنفقة ماضية ، أو استحل امرأة منها ، ولا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك امرأة واحدة منهن ، ولا قال لها : ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج ; فإن شئت فطالبيه ، وإن شئت حللتيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعذر عليه نفقة أهله أياما حتى سألته إياها ، ولم يقل لهن : هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن ، ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك ، ولا قال لها : هذا عوض عما فاتك من الإنفاق ، ولا سمع الصحابة لهذه المسألة خبرا ; وقول رضي الله عنه للغياب : " إما أن تطلقوا وإما أن تبعثوا بنفقة ما مضى " في ثبوته نظر ، فإن قال عمر : " ثبت عن ابن المنذر " فإن في إسناده ما يمنع ثبوته . ولو قدر صحته فهو حجة عليهم ، ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى . عمر
فإن قيل : وحجة عليكم في إلزامه لهم بها ، وأنتم لا تقولون بذلك .
قيل : بل نقول به ، وإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم [ ص: 274 ] يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك . وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا . وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة .
والمقصود أن على هذين المذهبين لا تسمع هذه الدعوى ، ويسمعها الشافعي بناء على قاعدة الدعاوى ، وأن الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه فلا يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة ; فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريق تخلصه من هذه الدعوى ، ولا ينفعه دعوى النشور ، فإن القول فيه قول المرأة ، ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه ; فله حيلتان ; إحداهما : أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة ، وللبينة أن تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع ; فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه ، وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل ، ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة وأحمد
والحيلة الثانية : أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته ، ويكون صادقا في هذا الإنكار ; فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها . والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له ; فهو صادق في إنكاره .