[ ص: 196 ] ] إبطال حيلة لضمان البساتين
وكذلك قالوا : لا يجوز ضمان البساتين ، والحيلة على ذلك أن يؤجره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء ، وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وقفا وهو ناظره أو كان ليتيم ، فإن هذه المحاباة في المساقاة تقدح في نظره ووصيته .
فإن قيل : إنها تغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة المستأجر له ، فهذا لا يجوز له أن يحابي في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة أخرى ، وهو نظير أن يبيع له سلعة بربح ثم يشتري له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح ، هذا إذا لم يبن أحد العقدين على الآخر ، فإن بنى عليه كانا عقدين في عقد ، وكانا بمنزلة سلف وبيع ، وشرطين في بيع ، وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدا ، مع أن هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من خصها بالتحيل وحده ، ثم فيها مفسدة أخرى ، وهي أن المساقاة عقد جائز ، فمتى أراد أحدهما فسخها فسخها وتضرر الآخر ، ومفسدة ثانية ، وهي أنه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من أنواعه .
وقد يتعذر عليه ذلك أو يتعسر ، إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها ، فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء ، وهكذا يقع سواء ، ثم قد يكون ذلك الجزء من الألف يسيرا جدا ، فلا يطالب به عادة ، فيبقى في ذمته لليتيم وجهة الوقف ، إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفقه من ذلك ، وأعمق علما ، وأقل تكلفا ، وأبر قلوبا ، فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة ، كما فعله رضي الله عنه بحديقة عمر بن الخطاب ، ووافقه عليه جميع الصحابة ، فلم ينكره منهم رجل واحد ، وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح ، كما تضمن الأرض لمغل الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر ، ولا فرق بينهما ألبتة ; إذ الأصل هنا كالأرض هناك ، والمغل يحصل بخدمة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الأرض ، ولو استأجر أرضا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته الله تعالى فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه ، لا فرق بينهما ألبتة ، فهذا أفقه من هذه الحيلة ، وأبعد من الفساد ، وأصلح للناس ، وأوفق للقياس ، وهو اختيار أسيد بن حضير أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الإسلام بن تيمية رضي الله عنهما ، وهو الصواب .