النظر الثالث في ، ومقتضاه موجب الأمر
موجب الأمر ، ومقتضاه بالإضافة إلى الفور ، والتراخي ، والتكرار ، وغيره
ولا يتعلق هذا النظر بصيغة مخصوصة بل يجري في قوله " افعل " كان للندب أو للوجوب ، وفي قوله " أمرتكم " " وأنتم مأمورون " ، وفي كل دليل يدل على الأمر بالشيء إشارة كانت أو لفظا أو قرينة أخرى . لكنا نتكلم في مقتضى قوله " افعل " ليقاس عليه غيره ، ونرسم فيه مسائل :
مسألة : قوله : " صم "
كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب ، والندب فهو بالإضافة إلى الزمان يتردد بين الفور ، والتراخي ، وبالإضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة ، واستغراق [ ص: 212 ] العمر ، وقد قال قوم : هو للمرة ، ويحتمل التكرار ، وقال قوم : هو للتكرار ، والمختار أن المرة الواحدة معلومة ، وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه ، واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ، ولا على إثباتها .
، وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ كتردده بين الوجوب ، والندب ، لكني أقول : ليس هذا ترددا في نفس اللفظ على نحو تردد اللفظ المشترك ، بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به ، لكن يحتمل الإتمام ببيان الكمية كما أنه يحتمل أن نتمم بسبع مرات أو خمس ، وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ، ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك . وكما أن قوله " اقتل " إذا لم يقل : اقتل زيدا أو عمرا فهو دون زيادة كلام ناقص فإتمامه بلفظ دال على تلك الزيادة لا بمعنى البيان . فإن قيل : بين مسألتنا ، وبين القتل فرق ، فإن قوله : " اقتل كلام ناقص لا يمكن امتثاله ، وقوله : " صم كلام تام مفهوم يمكن امتثاله .
قلنا : يحتمل أن يقال : يصير ممتثلا بقتل أي شخص كان بمجرد قوله " اقتل " كما يصير ممتثلا بصوم أي يوم كان إذا قال : " صم يوما " بلا فرق ، ويكون قوله : " اقتل " كقوله : " اقتل شخصا " لأن الشخص القتيل من ضرورة القتل ، وإن لم يذكر ، كما أن اليوم من ضرورة الصوم ، وإن لم يصرح به . فيتحصل من هذا أنه تبرأ ذمته بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم ، والزيادة لا دليل على وجوبها إذ لم يتعرض اللفظ لها ، فصار كما قبل قوله : " صم " ، وكنا لا نشك في نفي الوجوب بل نقطع بانتفائه ، وقوله : " صم " دال على القطع في يوم واحد فبقي الزائد على ما كان . هذا هو الظاهر من اللفظ المجرد عن الكمية ، ويعتضد هذا باليمين ، فإنه لو قال : " والله لأصومن " لبر بيوم واحد ، ولو قال : " لله علي صوم " لتقصى عن عهدة النذر بيوم واحد ; لأن الزائد لم يتعرض له فإن قيل : فلو فسر التكرار بصوم العمر فقد فسره بمحتمل أو كان ذلك إلحاق زيادة ، كما لو قال : أردت بقولي " اقتل " أي : اقتل زيدا ، وبقولي " صم " أي : صم يوم السبت خاصة فإن هذا تفسير بما لا يحتمله اللفظ ، بل ليس تفسيرا إنما ذكر زيادة لم يذكرها ، ولم يوضع اللفظ المذكور لها بالاشتراك ، ولا بالتجوز ، ولا بالتنصيص . قلنا : هذا فيه نظر ، والأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة ، وليس بتفسير ، إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر ، وعدد .
، وإن أراد استغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه ، وكان كلية الصوم شيء فرد إذ له حد واحد ، وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع ، كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد ، واللفظ يحتمله ، ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة ، ولهذا لو قال : أنت طالق ، ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ، ولو نوى الثلاثة بعد لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع ، ولو نوى طلقتين فالأغوص ما قاله ، وهو أنه لا يحتمله ، ووجه مذهب أبو حنيفة قد تكلفناه في كتاب المبادئ ، والغايات . فإن قيل : الزيادة التي هي كالمتممة لا تبعد إرادتها في اللفظ ، فلو قال : طلقت زوجتي ، وله أربع نسوة ، وقال : أردت زينب بنيتي وقع الطلاق من وقت اللفظ ، ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين . الشافعي
قلنا : الفرق أغوص لأن قوله : " زوجتي مشترك بين الأربع يصلح لكل واحدة ، فهو كإرادة إحدى المسميات بالمشترك . أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد ، والصوم موضوع لمعنى [ ص: 213 ] لا يتعرض للسبعة ، والعشرة ، وليست الأعداد موجودات فيكون اسم الصوم مشتركا بينهما اشتراك اسم الزوجة بين النسوة الزوجات .
شبه المخالفين ثلاثة :
الشبهة الأولى : قولهم : قوله : { فاقتلوا المشركين } يعم قتل كل مشرك ، فقوله : " صم ، وصل " ينبغي أن يعم كل زمان لأن إضافته إلى جميع الأزمان واحد كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص .
قلنا : إن سلمنا صيغة العموم فليس هذا نظيرا له ، بل نظيره أن يقال " صم الأيام ، وصل في الأوقات " أما مجرد قوله : " صم " فلا يتعرض للزمان لا بعموم ، ولا بخصوص ، لكن الزمان من ضرورته كالمكان ، ولا يجب عموم الأماكن بالفعل ، وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة ، وكذلك الزمان .
الشبهة الثانية : قولهم : إن قوله : " صم " كقوله : " لا تصم " ، وموجب النهي ترك الصوم أبدا ، فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدا ، وتحقيقه أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، فقوله : " قم " وقوله : " لا تقعد واحد ، وقوله : " تحرك " وقوله : " لا تسكن " واحد ، ولو قال " لا تسكن " لزمت الحركة دائما ، فقوله : " تحرك " تضمن قوله : " لا تسكن " .
قلنا : أما قولكم لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فقد أبطلناه في القطب الأول ، وإن سلمنا فعموم النهي الذي هو ضمن بحسب الأمر المتضمن لأنه تابع له ، فلو قال " تحرك مرة واحدة " كان السكون المنهي عنه مقصورا على المرة وقوله : " تحرك " كقوله : " تحرك مرة واحدة " كما سبق تقريره ، وأما قياسهم الأمر على النهي فباطل من خمسة أوجه :
الأول : أن القياس باطل في اللغات لأنها تثبت توقيفا .
الثاني : أنا لا نسلم في النهي لزوم الانتهاء مطلقا بمجرد اللفظ ، بل لو قيل : للصائم " لا تصم " يجوز أن يقول " نهاني عن صوم هذا اليوم أو عن الصوم أبدا ؟ " فيستفسر ، بل التصريح أن يقول : " لا تصم أبدا ، ولا تصم يوما واحدا " فإذا اقتصر على قوله : " لا تصم " فانتهى يوما واحدا جاز أن يقال : قضى حق النهي ، ولا يغنيهم عن هذا الاسترواح إلى المناهي الشرعية ، والعرفية ، وحملها على الدوام ، فإن هذا القائل يقول : عرفت ذلك بأدلة أفادت علما ضروريا بأن الشرع يريد عدم الزنا ، والسرقة ، وسائر الفواحش مطلقا ، وفي كل حال لا بمجرد صيغة النهي .
وهذا كما أنا نوجب الإيمان دائما لا بمجرد قوله : " آمنوا " لكن الأدلة دلت على أن دوام الإيمان مقصود .
الثالث : أنا نفرق ، ولعله الأصح ، فنقول : إن الأمر يدل على أن المأمور ينبغي أن يوجد مطلقا ، والنهي يدل على أنه ينبغي أن لا يوجد مطلقا ، والنفي المطلق يعم ، والوجود المطلق لا يعم ; فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا ، وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا ; ولذلك إذا قال في اليمين " لأفعلن بر بمرة ، ولو قال " لا أفعل حنث بمرة ، ومن قال " لأصومن " صدق ، وعده بمرة ، ومن قال " لا أصوم " كان كاذبا مهما صام مرة .
الرابع : أنه لو حمل الأمر على التكرار لتعطلت الأشغال كلها ، وحمل النهي على [ ص: 214 ] التكرار لا يفضي إليه إذ يمكن الانتهاء في حال واحدة عن أشياء كثيرة مع الاشتغال بشغل ليس ضد المنهي عنه ، وهذا فاسد لأنه تفسير للغة بما يرجع إلى المشقة ، والتعذر ، ولو قال : " افعل دائما " لم يتغير موجب اللفظ بتعذره ، وإن كان التعذر هو المانع ، فليقتصر على ما يطاق ، ويشق دون ما يتيسر .
الخامس : أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه ، ويجب الكف عن القبيح كله ، والأمر يقتضي الحسن ، ولا يجب الإتيان بالحسن كله ، وهذا أيضا فاسد ، فإن الأمر ، والنهي لا يدلان على الحسن ، والقبح ، فإن الأمر بالقبيح تسميه العرب أمرا فتقول : أمر بالقبيح ، وما كان ينبغي أن يأمر به ، وأما الأمر الشرعي فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن ، ولا النهي على القبح ، فإنه لا معنى للحسن ، والقبح بالإضافة إلى ذوات الأشياء بل الحسن ما أمر به ، والقبيح ما نهي عنه ، فيكون الحسن ، والقبح تابعا للأمر ، والنهي لا علة ، ولا متبوعا .
الشبهة الثالثة : أن أوامر الشرع في الصوم ، والصلاة ، والزكاة حملت على التكرار ، فتدل على أنه موضوع له . قلنا : وقد حمل في الحج على الاتحاد فليدلل على أنه موضوع له ، فإن كان ذلك بدليل فكذلك هذا بدليل وقرائن بل بصرائح سوى مجرد الأمر ، وقد أجاب قوم عن هذا بأن القرينة فيه إضافتها إلى أسباب ، وشروط ، وكل ما أضيف إلى شرط ، وتكرر الشرط تكرر الوجوب ، وسنبين ذلك في المسألة الثانية .