القول في البيان والمبين
وقد تم القول في المجمل وفي مقابلته المبين فلنتكلم في البيان وحكمه وحده . القول في البيان والمبين :
اعلم أنه جرت عادة الأصوليين برسم كتاب في البيان وليس النظر فيه مما يستوجب أن يسمى كتابا ، فالخطب فيه يسير الأمر فيه قريب . ورأيت أولى المواضع به أن يذكر عقيب المجمل ، فإنه المفتقر إلى البيان والنظر في حد البيان وجواز تأخيره والتدريج في إظهاره وفي طريق ثبوته ، فهذه أربعة أمور نرسم في كل واحد منها مسألة .
مسألة : : في حد البيان
اعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام ، وإنما يحصل الإعلام بدليل ، والدليل محصل للعلم ، فههنا ثلاثة أمور : إعلام ودليل به الإعلام وعلم يحصل من الدليل ; فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده : إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي . ومنهم من جعله عبارة عما به تحصل المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة ، أعني الأمور التي ليست ضرورية وهو الدليل ، فقال في حده : إنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه ; وهو اختيار . القاضي
ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبين الشيء ، فكأن البيان عنده والتبين واحد . ولا حجر في إطلاق اسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة ، إلا أن الأقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره ، إذ يقال لمن دل غيره على الشيء بينه له ، وهذا بيان منك لكنه لم يتبين وقال تعالى : { القاضي هذا بيان للناس } وأراد به القرآن وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح ، فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة . وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز ، إذ الكل دليل ومبين ، ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول له بيان حسن ، أي : كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد ، واعلم أنه ليس شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به . ويجوز أن يختلف الناس في تبين ذلك وتعرفه ، وليس من شرطه أن يكون بيانا لمشكل ; لأن النصوص المعربة [ ص: 192 ] عن الأمور ابتداء بيان ، وإن لم يتقدم فيها إشكال .
وبهذا يبطل قول من حده بأنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي ، فذلك ضرب من البيان وهو بيان المجمل فقط ، واعلم أن كل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيهه بفحوى الكلام على علة الحكم كل ذلك بيان ; لأن جميع ذلك دليل ، وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل قطعا دليل وبيان وهو كالنص . نعم كل ما لا يفيد علما ولا ظنا ظاهرا فهو مجمل وليس ببيان بل هو محتاج إلى البيان ، والعموم يفيد ظن الاستغراق عند القائلين به لكنه يحتاج إلى البيان ليصير الظن علما فيتحقق الاستغراق أو يتبين خلافه فيتحقق الخصوص . وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه أنه أريد به بيان الشرع ; لأن الفعل لا صيغة له .