مسألة في تأخير البيان
لا خلاف أنه لا يجوز إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال ، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا تأخير البيان عن وقت الحاجة للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر ، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي . وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا : يجوز تأخير بيان المجمل إذ لا يحصل من المجمل جهل . وأما العام فإنه يوهم العموم ، فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه ، مثل قوله : { وأبو بكر الصيرفي فاقتلوا المشركين } فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله . والمجمل مثل قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } يجوز تأخير بيانه ; لأن الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شيء ، وهو كما لو قال : حج في هذه السنة كما سأفصله ، أو : اقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين .
وفرق طوائف بين الأمر والنهي وبين الوعد والوعيد ، فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد . ويدل على جواز التأخير مسالك :
الأول : أنه لو كان ممتنعا لكان لاستحالته في ذاته أو لإفضائه إلى محال وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر ، وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز وهذا دليل يستعمله في مسائل كثيرة ; وفيه نظر ; لأنه لا يورث العلم ببطلان الإحالة ولا بثبوت الجواز ، إذ يمكن أن يكون وراء ما ذكره وفصله دليل على الإحالة لم يخطر له ، فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الإحالة ولا على الجواز . القاضي
فعدم العلم بدليل الجواز لا يثبت الإحالة ، وكذلك عدم العلم بدليل الإحالة لا يثبت الجواز ، بل عدم العلم بدليل الإحالة لا يكون علما ; لعدم الإحالة ، فلعل عليه دليلا ولم نعرفه ، بل لو عرفنا انتفاء دليل الإحالة لم يثبت الجواز ، بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي ، فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته ؟
الثاني : أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه ، ولأجله يحتاج إلى القدرة والآلة ، ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة فكذلك البيان وهذا أيضا ذكره ، وفيه نظر ; لأنه إنما ينفع لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال ولعله يحيله ; لما فيه من تجهيل أو لكونه [ ص: 193 ] لغوا بلا فائدة أو لسبب آخر ، وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غيره به . القاضي
الثالث : الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة قال الله تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } وثم للتأخير وقال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، وإنما أراد بقرة معينة ولم يفصل إلا بعد السؤال وقال تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } الآية .
، وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبني المطلب دون بني أمية وكل من عدا بني هاشم ، فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال : { وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا في إسلام ولم نزل هكذا } وشبك بين أصابعه وقال في قصة إنا نوح { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } بين بعد أن توهم أنه من أهله . وأما السنن فبيان المراد بقوله : { وأقيموا الصلاة } بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين ، وقوله عليه السلام { } ثم قال بعد ذلك : { ليس في الخضراوات صدقة } وقال : { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة } و { في أربعين شاة شاة } كله ورد متأخرا عن قوله : { خذوا عني مناسككم وآتوا الزكاة } . وغيرها { ولله على الناس حج البيت من استطاع } الآية وقال { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } وهو عام ثم ورد بعده : { ليس على الأعمى حرج } وكذلك جميع الأعذار وكذلك أمر النكاح والبيع والإرث ورد أولا أصلها ثم بين النبي عليه السلام بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل وما يصح بيعه وما لا يصح .
وكذلك كل عام ورد في الشرع فإنما ورد دليل خصوصه بعده ، وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره ، وإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذه الاستشهادات بتقدير اقتران البيان فلا يتطرق إلى الجميع
الرابع : أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق ، بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة ، فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة . ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط أن لا يرد نسخ ، وهذا أيضا واقع ، فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد ، وهو أيضا دليل على من جوز في الأمر دون الوعيد وعلى من قال بعكس ذلك .
وللمخالف أربع شبه .
الأولى : قالوا : إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم ، وإن منعتم فالفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه ولكن يسمع لفظه ، ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين . والجواب من وجهين أحدهما وهو الأولى : أنهم لما قالوا قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الإيجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت [ ص: 194 ] الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم .
الجواب الثاني أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الأرض من الزنج والترك بالقرآن ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم ، وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود ؟ فأمر العجم على تقدير البيان أقرب . نعم لا يحصل ذلك خطابا بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب ، والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الأمر بالزكاة وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد وكذلك قوله تعالى { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر .
فإن قيل : فليجز خطاب المجنون والصبي . قلنا : أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا كالمعدوم على تقدير الوجود ، وكذلك الصبي مأمور على تقدير البلوغ أعني من علم الله أنه سيبلغ ، أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له : إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب ، وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا .
الثانية : قولهم الخطاب يراد لفائدة ، وما لا فائدة فيه فيكون وجوده كعدمه ، ولا يجوز أن يقول أبجد هوز ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد ; لأنه لغو من الكلام ، وكذلك المجمل الذي لا يفيد .
قلنا : إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما ; لأن قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } يعرف منه وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق في المال ، فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له ، ولو عزم على تركه عصى . وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين ، وكذلك : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فلا يخلو عن أصل الفائدة ، وإنما يخلو عن كمالها . وذلك غير مستنكر بل هو واقع في الشريعة والعادة بخلاف قوله " أبجد هوز " فإن ذلك لا فائدة له أصلا .
الثالثة : أنه لا خلاف في أنه لو قال : { } وأراد خمسا من الأفراس لا يجوز ذلك ، وإن كان بشرط البيان بعده ; لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد ، فكذلك قوله : { في خمس من الإبل شاة فاقتلوا المشركين } يوهم قتل كل مشرك . وهو خلاف المراد ، فهو تجهيل في الحال . ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا ، وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول : عشرة إلا ثلاثة . وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص بشرط قرينة متصلة مبينة ، فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع ; وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل .
والجواب أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه ، وليس كذلك بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين متردد بين الاستغراق والخصوص ، وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق وإرادة الخصوص به من كلام العرب ، فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره ، فيقول مثلا : ليس للقاتل من الميراث شيء ، فإذا قيل له : فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث ، فيقول : ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال . ويقول : للبنت النصف من الميراث ، فيقال : [ ص: 195 ] فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا ، فيقول : ما خطر ببالي هذا ، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة . ويقول الأب : إذا انفرد يرث المال أجمع ، فيقال : الأب الكافر أو الرقيق لا يرث ، فيقول : إنما خطر ببالي الأب غير الرقيق والكافر . فهذا من كلام العرب .
وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب ، فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله ، بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر ، وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا .
الرابعة : أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم ، وإن جاز إلى غير نهاية ، فربما يخترم النبي عليه السلام قبل البيان فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص . قلنا : النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت ، فإن اخترم قبل البيان بسبب من الأسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه ، كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه فإنه يبقى مكلفا به دائما .
فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ، ولا فرق .