القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول
ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون . صدر القطب الثالث : اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول .
لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها . والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها ، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها ، والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع . والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة : إما لفظ ، وإما فعل ، وإما سكوت وتقرير . ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت ; لأن الكلام فيهما أوجز واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه ، أو بفحواه ومفهومه ، أو بمعناه ومعقوله ، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا . فهذه ثلاثة فنون المنظوم والمفهوم والمعقول .
الفن الأول : في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع .
ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام : القسم الأول : في المجمل والمبين ، القسم الثاني : في الظاهر والمؤول ، القسم الثالث : في الأمر والنهي ، القسم الرابع : في العام والخاص . فهذا صدر هذا القطب . أما المقدمة : فتشتمل على سبعة فصول : الفصل الأول : في ، الفصل الثاني : في أن اللغة هل تثبت قياسا الفصل الثالث : في الأسماء العرفية ، الفصل الرابع : في الأسماء الشرعية ، الفصل الخامس : في اللفظ المفيد وغير المفيد ، الفصل السادس : في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة ، الفصل السابع : في المجاز والحقيقة . [ ص: 181 ] مبدإ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف
الفصل الأول : في مبدإ اللغات .
وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية ، إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق ، وقال قوم : إنها توقيفية ، إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ، ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح وقال قوم : القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح . والمختار أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع . أما الجواز العقلي فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان . أما التوقيف فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك .
وأما الاصطلاح فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها ، فيبتدئ واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح ; بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى ، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة ، وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا .
أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ، ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة ، فالخوض فيه إذا فضول لا أصل له . فإن قيل : قال الله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها : } وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف ، فيدل على الوقوع ، وإن لم يدل على استحالة خلافه . قلنا : وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا ، إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات :
أحدها : أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى ; لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى
الثاني : أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره .
الثالث : أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات ، وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } وقوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها } وهو على كل شيء قدير إذ يخرج عنه ذاته وصفاته .
الرابع : أنه بما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن ، والغالب أن أكثرها حادثة بعد .