مسألة : أنكر منكرون جواز عقلا فضلا عن وقوعه سمعا التعبد بخبر الواحد
، فيقال لهم من أين عرفتم استحالته أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه ولا نزاع في الضرورة ؟ أو بدليل ؟ ولا سبيل لهم إلى إثباته لأنه لو كان محالا لكان يستحيل إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه ، ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة ، ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها ، فلا بد من بيان وجه المفسدة . فإن قيل وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع وربما يكذب فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى ولا يكون بأمره ، فكيف يجوز الهجوم بالجهل ؟ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه فلا يجوز الهجوم عليه بالشك ، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم ، بل إذا أمر الله [ ص: 117 ] تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون .
والجواب : أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول : أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة . فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده ، فيكون الوجوب معلوما ، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب .
فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة ؟ ويقال له : إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه ولكن بالعمل عند ظن صدقه وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب ، ولست متعبدا بالعلم بصدقه ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك ، وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك .
وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه خمسة . ثم الشهادة قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهادة خزيمة بن ثابت موسى وهارون والأنبياء صلوات الله عليهم ، وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم .
ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل ، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به ، وفتوى سائر الأئمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد ، وعند الظن يجب العمل كما يجب عند المشاهدة ، فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر . فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العمل خاصة ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا ؟ فإن قيل : فهل يجوز ؟ قلنا قال قوم يجوز بشرط ظن الصدق . التعبد بالعمل بخبر الفاسق
وهذا الشرط عندنا فاسد ، بل يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة ، فتكليف العمل عند وجود الخبر شيء وكون الخبر صدقا أو كذبا شيء آخر .