33 - قوله: (ص): "وكأن ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الترمذي النوع الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى أنه يشكل... إلخ". الخطابي
[ ص: 387 ] أقول: بين الترمذي والخطابي في ذلك فرق؛ وذلك أن قصد تعريف الأنواع الثلاثة عند أهل الحديث، فذكر الصحيح ثم الحسن ثم الضعيف. الخطابي
وأما الذي سكت عنه وهو: حديث المستور إذا أتى من غير وجه فإنما سكت عنه لأنه ليس عنده من قبيل الحسن.
فقد صرح بأن وأطلق ذلك ولم يفصل، والمستور قسم من المجهول. رواية المجهول من قسم الضعيف
وأما فلم يقصد التعريف بالأنواع المذكورة عند أهل الحديث، بدليل أنه لم يعرف بالصحيح ولا بالضعيف بل ولا بالحسن المتفق على كونه حسنا بل المعرف به عنده وهو حديث المستور - على ما فهمه المصنف - لا يعده كثير من أهل الحديث من قبيل الحسن وليس هو في التحقيق عند الترمذي مقصورا على رواية المستور، بل يشترك معه الضعيف بسبب سوء الحفظ، والموصوف بالغلط والخطأ وحديث المختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا عنعن وما في إسناده انقطاع خفيف، فكل ذلك عنده من قبيل الترمذي بالشروط الثلاثة وهي: الحسن
1 - أن لا يكون فيهم من يتهم بالكذب.
2 - ولا يكون الإسناد شاذا.
3 - وأن يروى مثل ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعدا وليس كلها في المرتبة على حد السواء بل بعضها أقوى من بعض.
[ ص: 388 ] ومما يقوي هذا ويعضده أنه لم يتعرض لمشروطية اتصال الإسناد أصلا، بل أطلق ذلك؛ فلهذا وصف كثيرا من الأحاديث المنقطعة بكونها حسانا.
[أمثلة لما يحسنه :] الترمذي
ولنذكر لكل نوع من ذلك مثلا من كلامه، يؤيد ما قلناه. فأما أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية المستور فكثير لا نحتاج إلى الإطالة بها، وإنما نذكر أمثلة لما زدناه على ما عند المصنف - رحمه الله - .
1 - فمن أمثلة ما وصف بالحسن وهو من رواية الضعيف السيئ الحفظ ما رواه من طريق عن شعبة عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم. قال: فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال إن امرأة من : هذا حديث حسن. الترمذي
[ ص: 389 ] وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد رضي الله عنهم.
وذكر جماعة غيرهم. وعاصم بن عبيد الله ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ وعاب على ابن عيينة الرواية عنه. شعبة
وقد حسن حديثه هذا لمجيئه من غير وجه كما شرط. والله أعلم. الترمذي
2 - ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف الموصوف بالغلط والخطأ ما أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن مجالد عن أبي [ ص: 390 ] الوداك ، عن رضي الله عنه قال: أبي سعيد . قال: هذا حديث حسن. كان عندنا خمر ليتيم، فلما نزلت المائدة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنه ليتيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "أهريقوه"
قلت: ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث وغيره رضي الله عنهم. وأشد من هذا ما رواه من طريق أنس عن الأعمش إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن رضي الله عنه في الأمر بقتل [ ص: 391 ] الكلاب وغير ذلك. قال: هذا حديث حسن. عبد الله بن المغفل
قلت: وإسماعيل اتفقوا على تضعيفه ووصفه بالغلط وكثرة الخطأ لكنه عضده بأن قال: روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن مثله.
يعني لمتابعة إسماعيل بن مسلم عن الحسن .
ومثله ما رواه من طريق علي بن مسهر عن عبيد بن معتب عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: . قال: هذا حديث حسن. كنا نحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر فيأمرنا [ ص: 392 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة
قلت: وعبيدة ضعيف جدا قد اتفق أئمة النقل على تضعيفه إلا أنهم لم يتهموه بالكذب.
ولحديثه أصل من حديث معاذة ، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - مخرج في الصحيح، فلهذا وصفه بالحسن.
ويؤيد هذا ما رويناه عن أنه سئل عن أبي زرعة الرازي ، فقال: لم يكن ممن يتعمد الكذب، ولكنه كان يغلط وهو عندي حسن الحديث. أبي صالح كاتب الليث
[ ص: 393 ] 3 - ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية من سمع من مختلط بعد اختلاطه، ما رواه من طريق عن يزيد بن هارون عن المسعودي قال: صلى بنا زياد بن علاقة - رضي الله تعالى عنه - فلما صلى ركعتين قام فلم يجلس فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم . المغيرة بن شعبة
وقال: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: هذا حديث حسن.
قلت: وهو ممن وصف بالاختلاط وكان سماع يزيد منه بعد أن اختلط. والمسعودي اسمه: عبد الرحمن
[ ص: 394 ] وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من أوجه أخر بعضها عند المصنف أيضا - رحمة الله تعالى عليه - والله أعلم.
4 - ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية مدلس قد عنعن ما رواه من طريق يحيى بن سعيد عن المثنى بن سعيد عن عن قتادة عن أبيه - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عبد الله بن بريدة . قال: هذا حديث حسن. "المؤمن يموت بعرق الجبين"
وقد قال بعض أهل العلم: لم يسمع من قتادة - رضي الله تعالى عنه - قلت: وهو عصريه وبلديه كلاهما من عبد الله بن بريدة أهل البصرة ولو صح أنه سمع منه فقتادة مدلس معروف بالتدليس وقد روى هذا بصيغة العنعنة، [ ص: 395 ] وإنما وصفه بالحسن لأن له شواهد من حديث وغيره - رضي الله عنهم - . عبد الله بن مسعود
ومن ذلك ما رواه من طريق هشيم عن يزيد عن أبي زياد عن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البراء بن عازب . قال: هذا حديث حسن. "إن حقا على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة وليمس أحدهم من طيب أهله فإن لم يجد فالماء له طيب"
قلت: وهشيم موصوف بالتدليس، لكن تابعه عنده أبو يحيى التيمي .
وللمتن شواهد من حديث وغيره - رضي الله تعالى عنهم - . أبي سعيد الخدري
[ ص: 396 ] 5 - ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو منقطع الإسناد - ما رواه من طريق عن عمرو بن مرة عن أبي البختري - رضي الله تعالى عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال علي في لعمر العباس - رضي الله تعالى عنه - : . وكان "إن عم الرجل صنو أبيه" - رضي الله عنه - تكلم في صدقته. وقال: "هذا حديث حسن". عمر
قلت: ولم يسمع من أبو البختري : اسمه سعيد بن فيروز - رضي الله تعالى عنه. علي
فالإسناد منقطع ووصفه بالحسن لأن له شواهد مشهورة من حديث وغيره وأمثلة ذلك عنده كثيرة. أبي هريرة
وقد صرح هو ببعضها.
[ ص: 397 ] فمن ذلك ما رواه من طريق عن الليث خالد بن يزيد عن عن سعيد بن أبي هلال إسحاق بن عمر عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله عز وجل".
قال: هذا حديث حسن وليس إسناده بمتصل.
[ ص: 398 ] وإنما وصفه بالحسن لما عضده من الشواهد من حديث وغيره. أبي برزة الأسلمي
وقد حسن عدة أحاديث من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع منه عند الجمهور.
وحديثا من رواية عن أبي قلابة الجرمي عائشة - رضي الله تعالى عنها - وقال بعده: لم يسمع أبو قلابة عن عائشة - رضي الله تعالى عنها.
ورأيت نحو ذلك، فإنه روى حديثا من رواية لأبي عبد الرحمن النسائي أبي عبيدة عن أبيه، ثم قال: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه إلا أن هذا الحديث جيد.
[ ص: 399 ] وكذا قال - في حديث رواه من رواية عبد الجبار بن وائل بن حجر : عبد الجبار لم يسمع من أبيه لكن الحديث في نفسه جيد.
إلى غير ذلك من الأمثلة.
وذلك مصير منهم إلى أن الصورة الاجتماعية لها تأثير في التقوية.
وإذا تقرر ذلك كان من رأيه - أي: - أن جميع ذلك إذا اعتضد لمجيئه من وجه آخر أو أكثر نزل منزلة الحسن احتمل ألا يوافقه غيره على هذا الرأي أو يبادر للإنكار عليه إذا وصف حديث الراوي الضعيف أو ما إسناده منقطع بكونه حسنا فاحتاج إلى التنبيه على اجتهاده في ذلك وأفصح عن مقصده فيه، ولهذا أطلق الترمذي الحسن لما عرف به فلم يقيده بغرابة ولا غيرها ونسبه إلى نفسه ومن يرى رأيه فقال: عندنا كل حديث إلى آخر كلامه الذي ساقه شيخنا بلفظه.
[ ص: 400 ] [ ص: 401 ]
وإذا تقرر ذلك بقي وراءه أمر آخر.
وذلك أن المصنف وغير واحد نقلوا الاتفاق على أن . الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح وإن كان دونه في المرتبة
فما المراد على هذا بالحديث الحسن الذي اتفقوا فيه على ذلك؟ هل هو القسم الذي حرره المصنف وقال: إن كلام ينزل عليه. وهو رواية الصدوق المشهور بالأمانة... إلى آخر كلامه، أو القسم الذي ذكرناه آنفا عن الخطابي مع مجموع أنواعه التي ذكرنا أمثلتها، أو ما هو أعم من ذلك؟ الترمذي
لم أر من تعرض لتحرير هذا، والذي يظهر لي أن دعوى الاتفاق إنما تصح على الأول دون الثاني وعليه أيضا يتنزل قول المصنف: إن كثيرا من أهل [ ص: 402 ] الحديث لا يفرق بين الصحيح والحسن كما سيأتي وكذا قول المصنف: إن الحسن إذا جاء من طرق ارتقى إلى الصحة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. كالحاكم
فأما ما حررناه عن أنه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد، فلا يتجه إطلاق الاتفاق على الاحتجاج به جميعه ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق. الترمذي
ويؤيد هذا قول : أجمع أهل العلم أن الخطيب . الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به
وقد صرح أحد الحفاظ النقاد من أبو الحسن ابن القطان أهل المغرب في كتابه: "بيان الوهم والإيهام" بأن هذا القسم لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه وعضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن.
وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفا يأباه. والله الموفق.
ويدل على أن الحديث إذا وصفه بالحسن لا يلزم [عنده] أن يحتج به؛ لأنه أخرج حديثا من طريق الترمذي خثيمة البصري عن الحسن عن - رضي [ ص: 403 ] عمران بن حصين
الله تعالى عنه - وقال بعده: "هذا حديث حسن وليس إسناده بذاك".
وقال في كتاب العلم بعده: بعد أن أخرج حديثا في فضل العلم: "هذا حديث حسن" قال: وإنما لم نقل لهذا الحديث: صحيح؛ لأنه يقال: إن دلس فيه فرواه بعضهم عنه، قال: "حدثت عن الأعمش عن أبي صالح - رضي الله عنه" انتهى. أبي هريرة
فحكم له بالحسن للتردد الواقع فيه، وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك، لكن في كل المثالين نظر، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما كونهما جاءا من وجه آخر كما تقدم تقريره.
لكن محل بحثنا هنا: هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا؟
(هذا الذي يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن قطان أميل) - والله أعلم - .