[ ص: 371 ] [دعوى ابن عبد السلام والنووي أن :] أخبار الصحيحين لا تفيد إلا الظن
12 - قوله: (ع): "وقد عاب ابن عبد السلام على هذا وذكر أن بعض ابن الصلاح المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته".
وقال النووي : خالف المحققون والأكثرون. فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر، وقال في شرح ابن الصلاح : يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - . مسلم
[رد الحافظ على النووي وابن عبد السلام :]
أقول: أقر شيخنا هذا من كلام النووي، وفيه نظر وذلك أن لم يقل: إن الأمة أجمعت على العمل (بما فيهما)، وكيف يسوغ له أن يطلق ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من حيث التفصيل؛ لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض من ناسخ أو مخصص. ابن الصلاح
وإنما نقل أن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول من حيث الصحة، ويؤيد ذلك أنه قال في شرح ابن الصلاح ما صورته: [ ص: 372 ] مسلم
لتلقي الأمة له بالقبول؛ وذلك يفيد العلم النظري وهو في إفادة العلم كالمتواتر إلا أن ما اتفقا عليه مقطوع بصدقه ، وتلقي الأمة بالقبول يفيد العلم النظري. المتواتر يفيد العلم الضروري
ثم حكى عن مقالته المشهورة أنه لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتاب إمام الحرمين البخاري مما حكم بصحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما. ومسلم
فهذا يؤيد ما قلنا أنه ما أراد أنهم اتفقوا على العمل وإنما اتفقوا على الصحة. وحينئذ فلابد لاتفاقهم من مزية؛ لأن اتفاقهم على تلقي خبر غير ما في الصحيحين بالقبول، ولو كان سنده ضعيفا يوجب العمل بمدلوله. فاتفاقهم على تلقي ما صح سنده ماذا يفيد؟
فأما متى قلنا يوجب العمل فقط لزم تساوي الضعيف والصحيح، فلابد للصحيح من مزية. وقد وجدت فيما حكاه في البرهان عن إمام الحرمين ما يصرح بهذا التفصيل الذي أشرت [ ص: 373 ] إليه؛ فإنه قال في الأستاذ أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك . الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته
ثم فصل ذلك فقال: إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر. وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا حكم بصدقه قطعا وحكى عن أبو نصر القشيري أنه بين في "كتاب التقريب" أن الأمة إذا اجتمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر منهم ذلك التواطؤ على أن الخبر صدق، كان ذلك دليلا على الصدق. القاضي أبي بكر الباقلاني
قال أبو نصر وحكى عن إمام الحرمين القاضي أن تلقي الأمة لا يقتضي القطع بالصدق.
ولعل هذا فيما إذا تلقته بالقبول، ولكن يحصل إجماع على تصديق الخبر فهذا وجه الجمع بين كلامي القاضي .
وجزم القاضي أبو نصر عبد الوهاب المالكي في كتاب الملخص بالصحة فيما إذا تلقوه بالقبول. قال: وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على صحته أم لا؟ على قولين: قال: وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - وأنكروا على من عدل عنه فهل يدل على صحته وقيام الحجة به؟
[ ص: 374 ] ذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحا بذلك.
وذهب إلى أنه يدل على صحته، انتهى. عيسى بن أبان
فقول الشيخ محيي الدين النووي : خالف المحققون والأكثرون. غير متجه. ابن الصلاح
بل تعقبه شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح فقال: هذا ممنوع؛ فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول.
قلت: وكأنه عني بهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية ؛ فإني رأيت فيما حكاه عن بعض ثقات أصحابه ما ملخصه: عند جماهير العلماء من السلف والخلف وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له وعملا بموجبه أفاد العلم كشمس الأئمة السرخسي وغيره من الحنفية وأمثاله من والقاضي عبد الوهاب المالكية ، [ ص: 375 ] والشيخ أبي حامد الإسفرائيني والقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأمثالهم من الشافعية ، وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم كأبي إسحاق [ ص: 376 ] الإسفرائيني وأبي بكر ابن فورك وأبي منصور التميمي وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره في مدخله إلى علوم الحديث - فذكر ذلك استنباطا وافق فيه هؤلاء الأئمة وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك ابن الصلاح كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي وابن عقيل وغيرهم؛ لأن هؤلاء يقولون: إنه لا يفيد العلم مطلقا. وعمدتهم أن ، والأمة إذا عملت بموجبه فالوجوب العمل بالظن عليهم وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن؛ لأن هذا جزم بلا علم. خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده
والجواب: أن إجماع الأمة معصوم عن الخطأ في الباطن، وإجماعهم على [ ص: 377 ] تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به، والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط فمجموعهم معصوم عن هذا كالواحد من أهل التواتر يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ، ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ عن مجموعهم ولا فرق، (انتهى كلامه).
وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده - الأستاذ فإنه قال: أهل الصنعة مجمعون على أن أبو إسحاق الإسفرائيني وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها. الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع
كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ.
وقد احترز عنه. ابن الصلاح
وأما قول الشيخ محيي الدين : "لا يفيد العلم إلا إن تواتر" فمنقوض بأشياء:
أحدها: وممن صرح به الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري إمام الحرمين والغزالي ، والرازي والسيف الآمدي ومن تبعهم. وابن الحاجب
[ ص: 378 ] ثانيها: الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن.
وممن ذهب إلى هذا الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني والأستاذ أبو منصور التميمي . والأستاذ أبو بكر بن فورك
وقال الأبياري - شارح البرهان - بعد أن حكى عن أنه ضعف هذه المقالة: بأن العرف واطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق قطعا بل قصاراه غلبة الظن لغلبة الإسناد. أراد أن النظر في أحوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك، ومال إليه إمام الحرمين . وإذا قلنا: إنه يفيد العلم فهو نظري لا ضروري، وبالغ الغزالي أبو منصور التميمي في الرد على من أبى ذلك، فقال: ، يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك. المستفيض وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ مبلغ التواتر
ثالثها: ما قدمنا نقله عن الأئمة في . ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى من إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق. الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول
ثم بعد تقرير ذلك كله جميعا لم يقل ولا من تقدمه أن [ ص: 379 ] هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر لأن ابن الصلاح ، وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك، ولهذا تخلفت إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت في الصحيحين - والله أعلم - المتواتر يفيد العلم الضروري الذي لا يقبل التشكيك
وبعد تقرير هذا فقول : "والعلم اليقيني النظري حاصل به" لو اقتصر على قوله: "العلم النظري" لكان أليق بهذا المقام. ابن الصلاح
أما اليقيني فمعناه القطعي، فلذلك أنكر عليه من أنكر؛ لأن المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده، وإنما يقع الترجيح في مفهوماته. ونحن نجد علماء هذا الشأن قديما وحديثا يرجحون بعض أحاديث الكتابين على بعض بوجوه من الترجيحات النقلية، فلو كان الجميع مقطوعا به (ما بقي للترجيح مسلك وقد سلم هذا القدر فيما مضى) لما رجح بين صحيحي ابن الصلاح البخاري ، فالصواب الاقتصار في هذه المواضع على أنه يفيد العلم النظري كما قررناه - والله أعلم. ومسلم