النوع التاسع والعشرون: معرفة الإسناد العالي والنازل
أصل الإسناد أولا : خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة .
روينا من غير وجه عن رضي الله عنه أنه قال : "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ". عبد الله بن المبارك
وطلب العلو فيه سنة أيضا، ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره .
قال رضي الله عنه: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف ". أحمد بن حنبل
وقد روينا : أن رضي الله عنه قيل له في مرضه الذي مات فيه : "ما تشتهي؟ قال : بيت خالي، وإسناد عالي ". يحيى بن معين
قلت : العلو يبعد الإسناد من الخلل، لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا، ففي قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل، وهذا جلي واضح .
ثم إن : العلو المطلوب في رواية الحديث على أقسام خمسة
أولها : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف، وذلك من أجل أنواع العلو ، وقد روينا عن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال : "قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل".
وهذا كما قال; لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل.
الثاني : وهو الذي ذكره ، القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا وجد ذلك في إسناد وصف بالعلو، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاكم أبو عبد الله الحافظ
وكلام يوهم أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعد من العلو المطلوب أصلا . الحاكم
وهذا غلط من قائله ; لأن القرب منه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك .
ولا ينازع في هذا من له مسكة من معرفة، وكأن أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإنكار على من يراعي في ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان إسنادا ضعيفا، ولهذا مثل ذلك بحديث الحاكم أبي هدبة ، ودينار ، والأشج ، وأشباههم. والله أعلم .
الثالث : العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين، أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات، والأبدال، والمساواة، والمصافحة ، وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع ، وممن وجدت هذا النوع في كلامه وبعض شيوخه، أبو بكر الخطيب الحافظ ، وأبو نصر بن ماكولا وغيرهم من طبقتهم، وممن جاء بعدهم. والله أعلم. وأبو عبد الله الحميدي،
أما الموافقة : فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ فيه - مثلا - عاليا، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه . مسلم
وأما البدل : فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ هو مثل شيخ مسلم، في ذلك الحديث . مسلم
وقد يرد البدل إلى الموافقة، فيقال فيما ذكرناه إنه موافقة عالية في شيخ شيخ ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة، وبدل، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة، والبدل لعدم الالتفات إليه . مسلم،
وأما المساواة: فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ وأمثاله، ولا إلى شيخ شيخه، بل إلى من هو أبعد من ذلك كالصحابي، أو من قاربه، وربما كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي - مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم، وبين ذلك الصحابي، فتكون بذلك مساويا مسلم، مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله . لمسلم
وأما المصافحة : فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك، فيقع ذلك لك مصافحة، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي . لمسلم
فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، فتقول : كأن شيخي سمع وصافحه . مسلما
وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك، فالمصافحة لشيخ شيخك، فتقول فيها : كأن شيخ شيخي سمع وصافحه . ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة، بل تقول : كأن فلانا سمعه من مسلما، من غير أن تقول فيه ( شيخي ) أو ( شيخ شيخي ). مسلم،
ثم لا يخفى على المتأمل : أن في المساواة، والمصافحة الواقعتين لك لا يلتقي إسنادك، وإسناد - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم فيلتقيان في الصحابي، أو قريبا منه ، فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك، بل لمن فوقك من رجال إسنادك، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم، أو أشباهه، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة، إذ حاصلها أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلم، أو مسلما، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما، مع تأخر طبقته عن طبقتهما . البخاري،
ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع، وطبقتهم المصافحات مع الموافقات، والأبدال لما ذكرناه .
ثم اعلم أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول؛ إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك .
وكنت قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف رحمهما الله، في أربعي أبي سعد السمعاني حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من أبي البركات الفراوي ، فقال الشيخ البخاري أبو المظفر: "ليس لك بعال، ولكنه نازل " وهذا حسن لطيف، يخدش وجه هذا النوع من العلو. والله أعلم . للبخاري
[ ص: 744 ] [ ص: 745 ] [ ص: 746 ] [ ص: 747 ] [ ص: 748 ] [ ص: 749 ] [ ص: 750 ] [ ص: 751 ] [ ص: 752 ] [ ص: 753 ] [ ص: 754 ] [ ص: 755 ] [ ص: 756 ]