فأقول مستعينا بالله قال الناظم رحمه الله:
هذا تمام نظم رسم الخط وها أنا أتبعه بالضبط
كيما يكون جامعا مفيدا على الذي ألفيته معهودا
مستنبطا من زمن الخليل مشتهرا في أهل هذا الجيل
و: "ألفيت" هنا بمعنى أصبت فلا تطلب إلا مفعولا واحدا، وهو هنا الضمير المتصل بها، و: "معهودا" حال منه وكذا قوله: "مستنبطا" و: "مشتهرا" حالان منه، والمعهود المتعارف، والمستنبط المستخرج والمخترع، و: "من" في قوله "من زمن الخليل" بمعنى "في"، وعبر الناظم بالجيل عن الزمان وأراد زمانه، والمعروف عند اللغويين أن الجيل الصنف من الناس، والمراد بالخليل الخليل بن أحمد شيخ المرجوع إليه في كلام العرب [ ص: 242 ] لغة، ونحوا، وتصريفا، وعروضا، ورسما، وضبطا. وكان عابدا زاهدا ورعا، يذكر أنه صلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة، وهو المستنبط للضبط الذي اقتصر عليه الناظم، وارتضاه إلا أن عبارته غير موفية بما قصده من كون ما ارتضاه هو ما استنبطه الخليل; لأن لفظه لا يدل إلا على كونه مستنبطا في زمن سيبويه ولا يدل على أن الخليل، هو المستنبط له، الخليل هو والخليل ثم قال الناظم: أول من ألف كتابا في الضبط،
فقلت طالبا من الوهاب عونا وتوفيقا إلى الصواب
"مقدمة":
التي هي الفتح والضم والكسر، والسكون والشد والمد ونحو ذلك مما سيأتي، ويرادف الضبط الشكل، وأما النقط فيطلق بالاشتراك على ما يطلق عليه الضبط والشكل وعلى الإعجام الدال على ذات الحرف، وهو النقط أفرادا وأزواجا المميز بين الحرف المعجم والمهمل، وموضوع فن الضبط العلامات الدالة على عوارض الحرف التي هي الحركة، والسكون وغيرهما مما سيأتي، ومن فوائده إزالة اللبس عن الحروف، بحيث إن الحرف إذا ضبط بما يدل على تحريكه بإحدى الحركات الثلاث لا يلتبس بالساكن، وكذا العكس، وإذا ضبط بما يدل على تحريكه بحركة مخصوصة لا يلتبس بالمتحرك بغيرها، وإذا ضبط بما يدل على التشديد لا يلتبس بالحرف المخفف، وإذا ضبط بما يدل على زيادته لا يلتبس بالحرف الأصلي وهكذا، والضبط كله مبني على الوصل بإجماع علماء الفن إلا مواضع مستثناة تعلم مما سيأتي بخلاف الرسم؛ فإنه مبني على الابتداء والوقف كما ذكرناه في مقدمة فن الرسم. فن الضبط علم يعرف به ما يدل على عوارض الحرف
"واعلم" أن العرب لم يكونوا أصحاب شكل ونقط فكانوا يصورون الحركات حروفا، فيصورون الفتحة [ ص: 243 ] ألفا ويضعونها بعد الحرف المفتوح، ويصورون الضمة واوا، ويضعونها بعد الحرف المضموم، ويصورون الكسرة ياء، ويضعونها بعد الحرف المكسور، فتدل هذه الأحرف الثلاثة على ما تدل عليه الحركات الثلاث من الفتح، والضم، والكسر.
"ولما" كتب الصحابة رضي الله عنهم القرآن في المصاحف لم يصوروا فيها تلك الأحرف الدالة على ما تدل عليه الحركات الثلاث، مخافة أن تلتبس بأحرف المد، واللين الأصول، ولم يكن الضبط بالعلامات الآتية موجودا عندهم. والصحيح أن المستنبط الأول للضبط هو وسبب استنباطه له أن أبو الأسود الدؤلي، زياد بن أبي سفيان - أمير البصرة في أيام كان له ابن اسمه "عبيد الله"، وكان يلحن في قراءته فقال معاوية زياد إن لسان العرب دخله الفساد، فلو وضعت شيئا يصلح الناس به كلامهم ويعرفون به القرآن، فامتنع لأبي الأسود: أبو الأسود فأمر زياد رجلا يجلس في طريق أبي الأسود، فإذا مر به قرأ شيئا من القرءان وتعمد اللحن، فقرأ الرجل عند مرور أبي الأسود به: أن الله بريء من المشركين ورسوله بخفض اللام من "رسوله" فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: معاذ الله أن يتبرأ من رسوله، فرجع من فوره إلى زياد وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، فاختار رجلا عاقلا فطنا وقال له: خذ المصحف وصباغا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط فوق الحرف نقطة، وإذا ضممتهما فانقط أمامه، وإذا كسرتهما فانقط تحته، فإذا أتبعته بغنة؛ يعني تنوينا فانقط نقطتين، فبدأ بأول المصحف حتى أتى على آخره، فكان ضبط أبي الأسود نقطا مدورا كنقط الإعجام، إلا أنه مخالف له في اللون، وأخذ ذلك عنه جماعة، وأخذه منه الخليل، ثم إن الخليل اخترع نقطا آخر يسمى المطول، وهو الأشكال الثلاثة المأخوذة من صور حروف المد، وجعل مع ذلك علامة الشد شينا أخذها من أول شديد، وعلامة الخفة خاء أخذها من أول خفيف، ووضع الهمزة والإشمام والروم فاتبعه الناس على ذلك إلى زمن الناظم، فلذلك اختاره في هذا النظم، واستمر العمل به إلى وقتنا هذا، لكن مع بعض تغيير فيه كما ستقف عليه،