ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره .
سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول : سمعت يقول : سمعت أبا الفضل بن العميد أبا مسلم الرستمي يقول : سمعت يذكر أن أجود شعر قاله : البحتري
أهلا بذلكم الخيال المقبل
قال : وسمعت يقول : أجود شعره هو قوله : أبا الفضل بن العميد
في الشيب زجر له لو كان ينزجر
قال : وسئلت عن ذلك ؟ فقلت : أعرف بشعر نفسه من غيره . البحتري
فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا :
قوله :
أهلا بذلكم الخيال المقبل فعل الذي نهواه أو لم يفعل
[ ص: 220 ]
برق سرى في بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الركاب الضلل
البيت الأول ، في قوله : " ذلكم الخيال " ، ثقل روح ، وتطويل وحشو ، وغيره أصلح له . وأخف منه قول الصنوبري :
أهلا بذاك الزور من زور شمس بدت في فلك الدور
وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف ، فيصير إلى الكزازة ، وتعود ملاحته بذلك ملوحة ، وفصاحته عيا ، وبراعته تكلفا ، وسلاسته تعسفا ، وملاسته تلويا وتعقدا . فهذا فصل .
وفيه شيء آخر ، وهو : أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال إقباله ، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ففيه عهدة ، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة ، وهو - لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يعلق نحو هذا الكلام ، ولا ينظر في عواقبه ؛ لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور .
ثم قوله : " فعل الذي نهواه أو لم يفعل " ليست بكلمة رشيقة ، ولا لفظة ظريفة ، وإن كانت كسائر الكلام .
فأما بيته الثاني ، فهو عظيم الموقع في البهجة ، وبديع المأخذ ، حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع ، يملأ القلب والفهم ، ويفرح الخاطر ، وتسري بشاشته في العروق .
وكان يسمي نحو هذه الأبيات : " عروق الذهب " وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة ، وحذقه في البلاغة . البحتري
ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل ، مع الديباجة الحسنة ، والرونق المليح .
[ ص: 221 ] وذلك : أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه ، كما يقال : إنه يسري كنسيم الصبا ، فيطيب ما مر به ، كذلك يضيء ما مر حوله ، وينور ما مر به . وهذا غلو في الصنعة ، إلا أن ذكره " بطن وجرة " حشو ، وفي ذكره خلل ؛ لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها ، بخلاف ما يؤثر في غيرها ، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة .
وتحديده المكان - على الحشو - أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر " سقط اللوى بين الدخول فحومل ، فتوضح فالمقراة " لم يقنع بذكر حد ، حتى حده بأربعة حدود ، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى - إن أخل بحد - أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا ! ! فهذا باب .
ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر ، ودقة المطلب ، ولطف المسلك ، وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه ، ويخالف ما وضع عليه أصل الباب .
ولا يجوز أن يقدر مقدر أن قطع الكلام الأول ، وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة ؛ لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود ، ولم يكن مبدعا ، ثم كان لا تكون فيه فائدة ؛ لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام ، وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ولا متقدما . وهو على ما كان من مقصده فهو ذو لفظ محمود ، ومعنى مستجلب غير مقصود ، ويعلم بمثله أنه طلب العبارات ، وتعليق القول بالإشارات . البحتري
وهذا من الشعر الحسن ، الذي يحلو لفظه ، وتقل فوائده ، كقول القائل :
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
[ ص: 222 ] وشدت على حدب المهارى رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع ، حلوة المجاني والمواقع ، قليلة المعاني والفوائد .
* * *
فأما قول بعد ذلك : البحتري
من غادة منعت وتمنع نيلها فلو انها بذلت لنا لم تبذل
كالبدر غير مخيل ، والغصن غيـ ـر مميل ، والدعص غير مهيل
فالبيت الأول - على ما تكلف فيه من المطابقة ، وتجشم الصنعة - ألفاظه أوفر من معانيه ، وكلماته أكثر من فوائده ، وتعلم أن القصد وضع العبارات [ ص: 223 ] في مثله ! ولو قال : هي ممنوعة مانعة ، كان ينوب عن تطويله ، وتكثيره الكلام وتهويله . ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان .
وأما البيت الثاني ، فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص ، أمر منقول متداول ، ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك .
وإنما يبقى تشبيهه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في البيت ، وهذا أيضا قريب ؛ لأن المعنى مكرر .
ويبقى له بعد ذلك شيء آخر ، وهو تعمله للترصيع في البيت كله ، إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف ؛ لأن التشبيه بالغصن كاف ، فإذا زاد فقال : كالغصن غير معوج ، كان ذلك من باب التكلف خللا ، وكان ذلك زيادة يستغنى عنها .
وكذلك قوله : " كالدعص غير مهيل " ؛ لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه ، فلا يكون لتقييده معنى .
* * *
وأما قوله :
ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن فيما أتاه ولا الجمال بمجمل
عذل المشوق وإن من سيما الهوى في حيث يجهله لجاج العذل
قوله في البيت الأول : " عندك " ، حشو ، وليس بواقع ولا بديع ، وفيه كلفة .
والمعنى الذي قصده ، أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء .
وفيه شيء آخر ؛ لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه ، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب .
[ ص: 224 ] وبيت كشاجم أسلم من هذا ، وأبعد من الخلل ، وهو قوله :
بحياة حسنك أحسني ، وبحق من جعل الجمال عليك وقفا أجملي
وأما البيت الثاني فإن قوله : " في حيث " ، حشا بقوله في كلامه ، ووقع ذلك مستنكرا وحشيا ، نافرا عن طبعه ، جافيا في وضعه ، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن ! فهو يمحو حسنه ، ويأتي على جماله .
ثم في المعنى شيء ، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول ، ولو كان مجهولا لم يهتدوا للعذل عليه . فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني .
ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع ، ولا شيء يفوت قول الشعراء في العذل ؛ فإن ذلك جملهم الذلول ، وقولهم المكرر المقول .
* * *
وأما قوله :
ماذا عليك من انتظار متيم بل ما يضرك وقفة في منزل
إن سيل عي عن الجواب فلم يطق رجعا ، فكيف يكون إن لم يسأل ؟ !
لست أنكر حسن البيتين وظرفهما ، ورشاقتهما ولطفهما ، وماءهما وبهجتهما ، إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع ؛ لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر ، وإنما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه .
ثم الذي ذكره من الانتظار - وإن كان مليحا في اللفظ - فهو في [ ص: 225 ] المعنى متكلف ؛ لأن الواقف في الدار لا ينظر أمرا ، وإنما يقف تحسرا وتلددا وتحيرا .
والشطر الأخير من البيت واقع ، والأول مستجلب ؛ وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر ؛ لأن وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف ، ولم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل .
وأما البيت الثاني ، فإنه معلق بالأول ، لا يستقل إلا به ، وهم يعيبون وقوف البيت على غيره ، ويرون أن البيت التام هو المحمود ، والمصراع التام بنفسه – بحيث لا يقف على المصراع الآخر - أفضل وأتم وأحسن .
وقوله : " فكيف يكون إن لم يسأل " ، مليح جدا ، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه ، ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه .
وفيه شيء آخر ؛ لأنه لا يصح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب ، وظاهر القول يقتضيه .
* * *
فأما قوله :
لا تكلفن لي الدموع فإن لي دمعا ينم عليه إن لم يفضل
ولقد سكنت إلى الصدود من النوى والشري أري عند أكل الحنظل
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة في الرأس هان عليه فصد الأكحل
[ ص: 226 ] فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم ، في طلب الإسعاد بالدموع ، والإسعاف بالبكاء ، ومخالف لأول كلامه ؛ لأنه يفيد مخاطبة العذل ، وهذا يفيد مخاطبة الرفيق .
وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها ، دون ضبط المعاني وترتيبها ؛ ولذلك قال الله - عز وجل - : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فأخبر سبحانه أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم ، واللفظ كيف أطاعهم ، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم . وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب ، ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن ، فصار بهذا أبلغ خطابهم .
ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا ، لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر ، أو كلام متكلم .
وأما قوله : " والشري أري " ، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق ، ومن جهة التجنيس المقارب ، فهي كلمة ثقيلة على اللسان ، وهم يذمون نحو هذا ، كما عابوا على قوله : أبي تمام
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي ، ومتى ما لمته لمته وحدي
ذكر لي الصاحب إسماعيل بن عباد : أنه جارى في محاسن هذه القصيدة ، حتى انتهى إلى هذا البيت ، فذكر له في أن قوله : " أمدحه أمدحه " معيب ، لثقله من جهة تدارك حروف الحلق . أبا الفضل بن العميد
[ ص: 227 ] ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة ، فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف .
ثم إن قوله : " عند أكل الحنظل " ، ليس بحسن ولا واقع .
وأما البيت الثالث ، فهو أجنبي من كلامه ، غريب في طباعه ، نافر من جملة شعره ، وفيه كزازة وفجاجة ، وإن كان المعنى صالحا .
* * *