فأما نهج القرآن ونظمه ، وتأليفه ورصفه ، فإن العقول تتيه في جهته ، وتحار في بحره ، وتضل في وصفه .
[ ص: 184 ] ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض ، وتستولي به على الأمد ، وتصل به إلى المقصد ، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس ، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر ؛ وأقرب عليك الغامض ، وأسهل لك العسير .
واعلم أن هذا علم شريف المحل ، عظيم المكان ، قليل الطلاب ، ضعيف الأصحاب ؛ ليست له عشيرة تحميه ، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه . وهو أدق من السحر ، وأهول من البحر ، وأعجب من الشعر .
وكيف لا يكون كذلك : وأنت تحسب أن وضع " الصبح " في موضع " الفجر " يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعرا أو سجعا ؟ وليس كذلك ؛ فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع ، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى ، بل تتمكن فيه ، وتضرب بجرانها ، وتراها في مظانها ، وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها ، وتجد الأخرى - لو وضعت موضعها - في محل نفار ، ومرمى شراد ، ونابية عن استقرار .
ولا أكثر عليك المثال ، ولا أضرب لك فيه الأمثال ، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة ، وضمنت لك من تقريب المقالة .
فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بينا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام ، ومتصرفات مجاري النظام ، لم تستفد مما نقربه عليك شيئا ، وكان التقليد أولى بك ، والاتباع أوجب عليك . ولكل شيء سبب ، ولكل علم طريق ؛ ولا سبيل إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه ، ولا بلوغ غايته من غير سبيله .
* *