[ ص: 155 ] باب
سمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة ، مع تقدمه في الكلام - يقول :
إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر ؛ لأن الشعر يضيق نطاق الكلام ، ويمنع القول من انتهائه ، ويصده عن تصرفه على سننه .
وحضره من يتقدم في صنعة الكلام ، فراجعه في ذلك ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة ، وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة .
ويشهد عندي للقول الأخير : أن معظم براعة كلام العرب في الشعر ، ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه ، وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب ، ولم ينقل في دواوينهم وأخبارهم .
وهو ، وإن ضيق نطاق القول ، فهو يجمع حواشيه ، ويضم أطرافه ونواحيه ، فهو إذا تهذب في بابه ، ووفي له جميع أسبابه - لم يقاربه من كلام الآدميين كلام ، ولم يعارضه من خطابهم خطاب .
وقد حكي عن أنه كان ينظر في المصحف ، فدخل إليه بعض أصحابه ، فأنكر نظره فيه ، لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده ، فقال له : هذا المكي على فصاحته كان مفحما ! ! " المتنبي "
فإن صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أمكن وأبلغ .
[ ص: 156 ] وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن ، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ، ويتقدم في بلاغته على كل قول ؛ بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ، ويتبين به بيان الصبح - وقفت على جلية هذا الشأن . فانظر فيما نعرضه عليك ، وتصور بفهمك ما نصوره ، ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن ، وتأمل ما نرتبه ، ينكشف لك الحق .
إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك ، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها ، وصحة نظمها ، وجودة بلاغتها ، ورشاقة معانيها ، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها ، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة ، والمعروفين بالحذق في البراعة ، فنقفك على مواضع خللها ، وعلى تفاوت نظمها ، وعلى اختلاف فصولها ، وعلى كثرة فضولها ، وعلى شدة تعسفها ، وبعض تكلفها ، وما تجمع من كلام رفيع ، يقرن بينه وبين كلام وضيع ، وبين لفظ سوقي ، يقرن بلفظ ملوكي ، وغير ذلك من الوجوه التي يجيء تفصيلها ، ونبين ترتيبها وتنزيلها .
* * *
فأما كلام " مسيلمة " الكذاب ، وما زعم أنه قرآن ، فهو أخس من أن نشتغل به ، وأسخف من أن نفكر فيه .
وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ ، وليتبصر الناظر ؛ فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى ركاكته قد أزل ، وميدان الجهل واسع ! ومن نظر فيما نقلناه عنه ، وفهم موضع جهله ، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم ، وآتاه من علم .
فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء : " والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم " ! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه !
[ ص: 157 ] وقال أيضا ، " والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس " !
وكان يقول : " والشاء وألوانها ، وأعجبها السود ، وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تجتمعون " !
وكان يقول : " ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون " !
وكان يقول : " والمبديات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوئوه " !
وقالت سجاج بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له : ما أوحي إليك ؟
فقال : " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، ما بين صفاق وحشا " !
وقالت : فما بعد ذلك ؟
قال : أوحي إلي : " إن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ، فنولج فيهن قعسا إيلاجا ، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا ، فينتجن لنا سخالا نتاجا " ! فقالت : أشهد أنك نبي ! !
ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه ؛ كراهية التثقيل .
وروي : أنه سأل - رضي الله عنه - أقواما قدموا عليه من أبو بكر الصديق بني حنيفة ، عن هذه الألفاظ ؟ فحكوا بعض ما نقلناه ، فقال : سبحان [ ص: 158 ] الله ! ويحكم ، إن هذا الكلام لم يخرج عن إل ، فأين كان يذهب بكم ؟ ! أبو بكر
ومعنى قوله : " لم يخرج عن إل " : أي عن ربوبية .
ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام !
* * *
فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم ، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع البلاغة ، وتستدل على مواضع البراعة .
وأنت لا تشك في جودة شعر " امرئ القيس " ولا ترتاب في براعته ، ولا تتوقف في فصاحته ، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها ، من ذكر الديار والوقوف عليها ، إلى ما يصل بذلك : من البديع الذي أبدعه ، والتشبيه الذي أحدثه ، والمليح الذي تجد في شعره ، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله ، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه : من صناعة وطبع ، وسلاسة وعفو ، ومتانة ورقة ، وأسباب تحمد ، وأمور تؤثر وتمدح . وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا ، ويضمون أشعارهم إلى شعره ، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة ، وأمور بديعة ، وربما فضلوهم عليه ، أو سووا بينهم وبينه ، أو قربوا موضع تقدمه عليهم ، وبرزوه بين أيديهم .
[ ص: 159 ] ولما اختاروا قصيدته في " السبعيات " . أضافوا إليها أمثالها ، وقرنوا بها نظائرها ، ثم تراهم يقولون : لفلان لامية مثلها ، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته ، وتساويه في طريقته ، وربما غبرت في وجهه في أشياء كثيرة ، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة .
وإذا جاؤوا إلى تعداد محاسن شعره ، كان أمرا محصورا ، وشيئا معروفا . أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره ، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه ، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن ، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته ، ومتانته إلى عذوبته ، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته ؛ حتى إن منهم من قصر عنه في بعض ، تقدم عليه في بعض ، وإن وقف دونه في حال ، سبقه في أحوال ، وإن تشبه به في أمر ، ساواه في أمور لأن الجنس الذي يرمون إليه ، والغرض الذي يتواردون عليه ، هو مما للآدمي فيه مجال ، وللبشري فيه مثال ؛ فكل يضرب فيه بسهم ، ويفوز فيه بقدح ، ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا ، وتتباين تباينا ، وقد تتقارب تقاربا ، على حسب مشاركتهم في الصنائع ، ومساهمتهم في الحرف .