[ ص: 135 ] نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية "
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، : اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سهيل بن عمرو قريش بغير إذن وليه ، رده عليهم . ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يردوه عليه ؛ وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ، ولا إغلال ؛ وأنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وعقده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه ؛ وأنك ترجع عنا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ؛ فإذا كان عاما قابلا خرجنا عنك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ؛ وأن معك سلاح الراكب ، والسيوف في القرب ؛ فلا تدخلها بغير هذا "
* * *
ولا أطول عليك ، وأقتصر على ما ألقيته إليك ؛ فإن كان لك في الصنعة حظ ، أو كان لك في هذا المعنى حس ، أو كنت تضرب في الأدب [ ص: 136 ] بسهم ، أو في العربية بقسط - وإن قل ذلك السهم ، أو نقص ذلك النصيب - فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن ، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول - صلى الله صلى الله عليه وسلم - في خطبه ورسائله ؛ وما عساك تسمعه من كلامه ؛ ويتساقط إليك من ألفاظه ؛ وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا ، وأمدا مديدا ، وميدانا واسعا ، ومكانا شاسعا .
* * *
فإن قلت : لعله أن يكون تعمل للقرآن ، وتصنع لنظمه ، وشبه عليك الشيطان ذلك من خبثه - فتثبت في نفسك ، وارجع إلى عقلك ، واجمع لبك ، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام ، والمحافل الكبار ، والمواسم الضخام ؛ ولا يتجوز فيها ، ولا يستهان بها . والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه ، ويشمر لها عن جد واجتهاد ؛ فكيف يقع بها الإخلال ؟ وكيف تعرض للتفريط ؟ فستعلم - لا محالة - أن نظم القرآن من الأمر الإلهي ؛ وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمر النبوي .
فإذا أردت زيادة في التبين ، وتقدما في التعرف ، وإشرافا على الجلية وفوزا بمحكم القضية ؛ فتأمل - هداك الله - ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء ؛ لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا - من خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد ، وسبكها سبك غير مختلف ؛ وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ، ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين ، وبين شعر الشاعرين ؛ وذلك أمر له مقدار معروف ، وحد - ينتهي إليه - مضبوط .
[ ص: 137 ] فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج ، ولجملته طريق ، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت - نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى ، وتأملته مرة ثانية ؛ فتراعي بعد موقعه ، وعالي محله وموضعه ؛ وحكمت بواجب من اليقين ، وثلج الصدر بأصل الدين .